كبسولة وعي
حكومة الأمل في السودان (2)
دعوة للتوضيح — من البيان السياسي إلى العقد التنفيذي
حمل الخطاب رؤية طموحة ونوايا إصلاحية واضحة، إلا أن الجانب الزمني لم يُفصَّل..
البلاد لا تحتاج إلى بوصلة واضحة تُميّز بين العاجل والمؤجل..
الغياب الأبرز هو تحديد طبيعة العلاقة بين السلطة التنفيذية والمؤسسة العسكرية..
صباح المكي
في الجزء الأول من هذه القراءة، توقفنا عند الجوانب الإيجابية التي حملها خطاب رئيس الوزراء: نبرة أخلاقية مسؤولة، سعيٌ لتخفيف الاستقطاب، ومحاولة جادّة لاستعادة هيبة الدولة بلغة مطمئنة تعبّر عن وعي بلحظة وطنية فارقة. لكن، وبنفس الروح البناءة، تبرز الحاجة إلى استكمال الصورة — لا من باب التفكيك، بل من منطلق الإسهام في التأسيس فقد غابت عن الخطاب بعض المحددات المفصلية، أو وردت بإشارات موجزة تحتاج إلى مزيد من التوضيح.
ما نقدمه هنا ليس نقدًا، بل مداخل استفسارية مشروعة تنبع من تطلّع وطني واسع لأن يتحول المشروع إلى مسار واضح المعالم.
فالإرادة السياسية، حين تتجاوب مع أسئلة المجتمع، تزداد رسوخًا وقدرة على التحوّل إلى خطة قابلة للتنفيذ. وإذ نعرض هذه الملاحظات في إطار من المسؤولية الوطنية، فإننا نأمل أن تجد لاحقًا صداها لدى الحكومة أو مكتب رئيس الوزراء، بما يعزز الشفافية، ويرسّخ الثقة، يحوّل الخطاب من بيان تأسيسي إلى تعاقد تنفيذي واضح المعالم.
*1. لإطار الزمني: متى تبدأ الخطة؟*
حمل الخطاب رؤية طموحة ونوايا إصلاحية واضحة، إلا أن الجانب الزمني لم يُفصَّل بما يكفي لتكتمل معالم الطريق. لم تُحدَّد بعد مواعيد تشكيل الحكومة، ولا جدول زمني لبدء الإصلاحات، ولا مؤشرات تنفيذية تُتيح للرأي العام تتبّع التقدّم وقياس الإنجاز.
وفي هذه المرحلة الدقيقة، يصبح تحديد الأطر الزمنية خطوة ضرورية — لا بوصفها قيدًا، بل أداة لتجسيد الإرادة السياسية وتحويلها إلى التزام قابل للتقييم والمساءلة. فالرؤية متى ارتبطت بتوقيت، اكتسبت وزنًا تنفيذيًا، ورسّخت ثقة الناس في المسار.
وانطلاقًا من ذلك، فإن تخصيص ملحق تفصيلي يربط المبادئ العامة بجداول زمنية واضحة سيكون إضافة مهمة تعزّز الشفافية، وتمنح المشروع الوطني إطارًا عمليًا يمكن البناء عليه بثقة وتدرّج.
*2.آليات الاختيار: نحو مسار مؤسسي واضح*
جاءت دعوة رئيس الوزراء للكفاءات الوطنية المستقلة لتقديم سيرهم الذاتية بوصفها رسالة انفتاح إيجابية. لكن الخطاب لم يوضح الآلية التي ستُعتمد لاختيار الوزراء: من سيشرف؟ ما هي المعايير؟ وما الضمانات الرقابية لعدالة الفرز؟ الكفاءة لا تُختزل في السيرة الذاتية، بل تتجلى في وجود منظومة مؤسسية تضمن الشفافية، وتمنع إعادة إنتاج النخب التقليدية تحت لافتة “التكنوقراط”. فالفرز الغامض، وتجاهل المعايير، يفتحان الباب لتوازنات غير معلنة تفرغ المشروع من مضمونه.
لذلك، فإن الإعلان عن لجنة مستقلة، ومعايير مفاضلة معلنة، وآلية إشراف واضحة، سيكون خطوة مهمة لترسيخ الثقة، وتحويل مبدأ “الكفاءة” من شعار إلى ممارسة.
*3. ترتيب الأولويات: أي القطاعات أولًا؟*
رغم وضوح الهيكل الوزاري وتحديد عدد الوزارات، جاء الطرح دفعة واحدة دون تراتبية تعكس أولويات المرحلة. ففي ظل واقع اقتصادي هش وأمني مضطرب وموارد محدودة، لا يمكن التعامل مع كل القطاعات بمعيار الإلحاح ذاته.
لم يتضح ما إذا كانت هناك خطة لتقديم بعض القطاعات — كالصحة والتعليم والأمن الغذائي — على غيرها. ولم تُذكر أي موجهات تحدد كيفية تخصيص الميزانيات أو ترتيب التدخلات التنفيذية.
البلاد في هذه المرحلة لا تحتمل توزيعًا متساويًا للموارد بقدر ما تحتاج إلى بوصلة واضحة تُميّز بين العاجل والمؤجل، وتُوجّه التدخلات بحسب مستوى الحاجة وجدوى الأثر. أما إعلان الأولويات، فليس إقصاءً، بل أداة تنظيم ضرورية، وهو ما نأمل أن يُستكمل في الطروحات القادمة.
*4. موارد التنفيذ: الرؤية الطموحة بانتظار السند المالي*
رغم طموح الخطاب في مجالات الاقتصاد والتنمية، لم يأتِ على ذكر أساسيات التمويل. لا مؤشرات عن الدين العام، أو العجز، أو الإصلاح الهيكلي، أو طبيعة الشراكات المتوقعة. لم يُجب الخطاب عن سؤال محوري: من أين سيتم تمويل هذه المشاريع؟ هل الرهان على الدعم الخارجي؟ أم على الموارد الذاتية؟ وإن كانت الثانية، فما حجم القدرة الحقيقية للدولة على تغطية التزاماتها؟ وهل ستُفرض أعباء مالية جديدة على المواطنين؟ أم يُعاد توزيع الإنفاق؟
إن أي خطة اقتصادية، مهما سَمَت أهدافها، تزداد قوة حين تُقرَن بتوضيحٍ مالي يعكس واقعية التنفيذ. ومن هنا، فإن تضمين مؤشرات التمويل، سواء من الموارد الذاتية أو عبر الشراكات، يُعد خطوة ضرورية لتعزيز الثقة، وتأكيد الجدية، وتوفير إجابة مبكرة على تساؤلات مشروعة حول سُبل التحوّل من الرؤية إلى التطبيق..
*5. المسألة الأمنية: علاقة الحكومة بالمؤسسة العسكرية*
في خطاب يؤسس لمرحلة الحرب وما بعدها، ظلّ الغياب الأبرز هو تحديد طبيعة العلاقة بين السلطة التنفيذية والمؤسسة العسكرية، في ظل نزاع لا يزال مفتوحًا على جبهات متعددة. اكتفى الخطاب بإشارة مقتضبة إلى أن “الحرب علّمتنا أن أمننا القومي هو الأساس”، دون أن يوضح من يدير هذا الأساس، أو كيف تُحدَّد أولوياته، أو ما موقع المؤسسة العسكرية من خارطة القرار السياسي.
نحن أمام حكومة مدنية ناشئة، أُعلنت من قلب الحرب، دون إعلانٍ لحالة طوارئ، ودون توصيف دستوري لطبيعة علاقتها بمجلس سيادي ذي طابع عسكري، يقود فعليًا معركة الدفاع عن الدولة ضد ميليشيا مدعومة خارجيًا تسعى لتفكيكها. اضطلاع المؤسسة العسكرية بقيادة العمليات القتالية أمر مفهوم في هذا السياق، لكن استمرار غياب الإطار الناظم للعلاقة بين الحكومة والمؤسسة العسكرية — من حيث التبعية، والصلاحيات، وحدود المسؤولية — يترك الباب مفتوحًا أمام تداخل الصلاحيات، خاصة في القضايا التي تمس الأمن الداخلي، الذي يقع في نطاق مسؤوليات مدنية مثل وزارة الداخلية والأجهزة الشرطية.
هذا الغياب لا يمسّ فقط وضوح المهام، بل يفتح المجال لتأويلات قد تُربك أداء الدولة في ملفات حساسة. المطلوب ليس الحد من أدوار أي طرف، بل صياغة علاقة مؤسسية واضحة تضمن التكامل بين المؤسسات، وتُغلق أبواب الالتباس، وتُرسّخ وحدة القرار الوطني في لحظة بالغة الدقة.
*6.ملف العدالة: سؤال لا يسقط بالتقادم*
رغم مركزية العدالة في أي تحوّل حقيقي، غاب الملف تمامًا عن الخطاب. لا ذكر للجان تحقيق، أو جبر ضرر، أو محاسبة. وكأنّ الذاكرة الجماعية يُطلب منها أن تُطوى بالصمت لا بالإنصاف. في لحظة ما بعد الحرب، لا يمكن تجاوز معاناة الضحايا والنازحين دون اعتراف ومساءلة. تجاهل هذا الملف لا يُضعف فقط مشروعية الدولة، بل يُبقي الانقسام حاضرًا تحت سطح الخطاب. فالإنصاف ليس مسألة قانونية فقط، بل ضرورة سياسية وأخلاقية. والمصالحة لا تُبنى بالنسيان، بل بالمكاشفة. إن إفراد مساحة صريحة لهذا الملف في المرحلة القادمة سيكون خطوة حاسمة لاستعادة الثقة وترسيخ الجدية، ومؤشرًا على استعداد الحكومة للتعاطي مع العدالة لا بوصفها عبئًا ماضيًا، بل شرطًا تأسيسيًا لتحوّل مستدام يُنهي ثقافة الإفلات ويؤسس لعقد وطني جديد.
*7.السياسة الخارجية: من الانفتاح إلى تحديد الاتجاه*
أشار الخطاب إلى “الانفتاح الدبلوماسي”، لكن دون تحديد لرؤية واضحة لموقع السودان في خارطة التحالفات، أو لطبيعة العلاقة المرتقبة مع دول الخليج، والغرب، ودول الجوار. وقد بدا هذا الانفتاح واسعًا في عباراته، لكنه غير محدد في اتجاهاته. في لحظة فارقة كالتي يمر بها السودان، تصبح السياسة الخارجية امتدادًا لتعريف المشروع الوطني في الداخل. فالدولة التي لا تُحدّد تموضعها بوضوح، تترك مساحتها مفتوحة لتقديرات الآخرين، بدل أن تساهم بفاعلية في صياغة توازناتها.
الانفتاح، ما لم يُضبط باتجاه ومصالح محددة، قد يتحوّل من مرونة إلى قابلية للاختراق. ولهذا، فإن تخصيص رؤية دقيقة للعلاقات الخارجية، تُبنى على فهم المصالح لا المجاملات، سيكون عنصرًا أساسيًا في تعزيز استقلال القرار الوطني، وتمكين السودان من أداء دور متوازن في محيطه الإقليمي والدولي.
*8.العدالة التنموية: من النية الجامعة إلى التوزيع المتوازن*
أكّد الخطاب على أن التنمية ستكون أولوية في عمل الحكومة، وهي إشارة موفقة تعبّر عن إدراك لأهمية هذا المحور في مرحلة ما بعد الحرب. غير أن الخطاب لم يتوسّع في توضيح كيفية توزيع التنمية بين الولايات، ولا في تقديم تصور مبدئي لإعادة إعمار المناطق الأكثر تضررًا، أو لسياسات تنموية تُراعي تفاوت الحاجات بين الأقاليم. في سياق استثنائي كهذا، يُصبح توسيع الرؤية التنموية ليشمل مختلف أنحاء البلاد — بحسب درجة التأثر وحجم الاحتياج — أمرًا حاسمًا في إعادة بناء الثقة، وترسيخ مبدأ المواطنة المتساوية.
إن تضمين هذا البُعد في البرامج التنفيذية المقبلة لن يعزز فقط عدالة التوزيع، بل سيمنح المشروع الوطني بعده الحقيقي، بوصفه مشروعًا لكل السودان، لا لبعضه.
*خاتمة: حين تصبح النوايا بداية لا نهاية*
ما تضمنه الخطاب من مبادئ مسؤولة ونبرة جامعة يمثّل بداية واعدة في مسار يستحق التقدير. غير أن هذه البداية، بما حملته من إشارات، تفتح بدورها أبوابًا لأسئلة ضرورية تتعلق بالتوقيت، والتمويل، والعلاقة بين المؤسسات، والعدالة، والتموضع الدولي. السودان لا ينتظر حلولًا مكتملة، بل ينتظر وضوحًا يُقارب الواقع بشجاعة. وما هو مأمول من الحكومة ليس أن تُجيب عن كل شيء دفعة واحدة، بل أن تبدأ — بصدق وشفافية — في ملء الفراغات، وتقديم ما يمكن البناء عليه بثقة، واستيعاب ما يجب مواجهته لا تجاوزه.
ما طُرح لا يُنتقد، بل يُطلب استكماله. فالنوايا، مهما صفَت، لا تُغني عن الأدوات، والشعارات، مهما سمت عباراتها، لا تُعوّض وضوح السياسات وآليات التنفيذ. أما البيان، إن لم يُرفق بخريطة دقيقة، فسيبقى وعدًا مفتوحًا لا عقدًا مُلزِمًا مع الواقع.
نعم، لنتفاءل. ولكن بتفكير يقظ، وبأسئلة مشروعة، وبذاكرة وطنية لا تُقصي التفاصيل، بل تلتقطها لتصوغ بداية لا تُكرّر ما سبق، بل تتجاوزه برؤية جديدة ومسؤولية كاملة.
#القوات_المسلحة_السودانية_تمثلني
bitalmakki@gmail.com