جمهورية الصمت الأبيض: موسكو كما رأيتها..! ضياء الدين بلال

جمهورية الصمت الأبيض: موسكو كما رأيتها..!

ضياء الدين بلال

خمسة أيام قضيتها في العاصمة الروسية موسكو، زيارتي الأولى لمدينة يهيمن عليها الثلج، يطبع حضوره على الأرصفة والوجوه والنوافذ.

في سبعة أشهر من العام، يفرض الثلج سطوته على أنفاس الحياة وملامح السكان. قاهر للأشجار والمباني، وجنرال حسم معارك تاريخية، لا تزال هزيمة جيوش هتلر، وقبلها نابليون، شاهدة على سطوته.

وحدها شجرة البتولا تتسلل بطاقة هامسة، تذيب شيئًا من قسوة الجليد بشهقة الحياة.

مررت بتمثال فلاديمير لينين، لا تزال هامته مرفوعة رغم انكسار الحلم وتلاشي الفكرة وسقوط حائط برلين.

وعلى ضفاف السرد، تعبق أنفاس دوستويفسكي في المكان، في “الإخوة كارامازوف” و”الأبله”، أعظم ثرثار أنجبته الرواية العالمية.

وعلى مسرح “بستان الكرز”، يصبّ تشيخوف خمر السخرية على مائدة المسرح، فيما تزف رواية “الدون الهادئ” شولوخوف إلى نوبل للآداب.

معلومة وحيدة رفعت حاجبي الدهشة: إزالة الثلوج من شوارع موسكو ونقلها إلى أطراف البلاد تكلّف الدولة سنوياً نحو ستة مليارات دولار.

الثلج يطبع حتى الوجوه. الروس، بملامحهم الجامدة، لا يبتسمون لغريب، لا يتفاجؤون، ولا ينتبهون لاختلاف لسانك أو لونك. كأن كل واحد منهم يعيش داخل معطفه، وخلف حاجز لا يُخترق.

في أحد المعالم، وبينما الثلوج تتساقط، انزلقت وسقطت أرضًا وسط جمع من الروس. لم يلتفت إلي أحد، لم يبدُ على أحدهم أي دهشة، ولم تمتد يد للمساعدة. كأن السقوط هناك لا يُرى، أو لا يُعد حدثًا يستحق التوقف.
الشارع الروسي صارم ومنضبط. لا كلمات مجانية، ولا خدمات بلا مقابل. حتى عربات التسوق لا تُستخدم إلا برسوم.

ربما هو انعكاس لأزمة اقتصادية تَشَكَّلت بعد العقوبات الغربية إثر أزمة أوكرانيا وضمّ القرم، إذ تراجعت قيمة الروبل مقابل الدولار من 31 إلى 61، ولامس الثمانين، قبل أن يعود إلى حدود الستين بقرارات من إدارة بوتين.

ورغم التحديات، لم تبلغ روسيا مرحلة الانهيار. احتياطها النقدي لا يزال يتجاوز 600 مليار دولار.
والمواطن يتحمل – بتوازن نفسي ملحوظ – فاتورة مغامرات الدولة في أوكرانيا وسوريا، وإن كان استمرار التكاليف وتراجع أسعار النفط يهددان هذا التوازن.

يحاول بوتين المواءمة بين ماضي الـ(KGB) وحلم قومي جديد، يستدعي به أمجاد الاتحاد السوفياتي، دون أن يقع في فخ ترنح غورباتشوف أو فوضى يلتسن.

القبضة الأمنية لا تخطئها العين. نظرات الضباط في المطار، أجهزة المسح البصري، إجراءات الدخول الصارمة، حتى لموظفي الدولة أنفسهم.
بصمة “الكي جي بي” لا تزال ماثلة في النظام، والبيروقراطية القديمة تحكم إيقاع اليوم.
تاريخ الشيوعية محفور على جدران المترو، في تماثيل الزعماء، وشعارات المطرقة والمنجل، وفي أسماء الشوارع والمباني.

الجيل القديم يحنّ إلى ذلك الزمن، أما الشباب فقد اختاروا طريقًا مختلفًا: ملبس غربي، طعام غربي، واهتمامات غربية.
وموسكو نفسها تقف بين زمنين… زمن تماثيل لينين، وزمن مراكز التسوق العملاقة.
موسكو مدينة الثلج والتاريخ، الجليد والسرد، الإمبراطوريات التي سقطت، والكبرياء الذي بقي صامدًا رغم الهزائم.
فيها كل شيء صلب، حتى المشاعر. وكل خطوة فيها تحتاج حذرًا، ليس من الانزلاق على الجليد فقط، بل من انزلاق أعمق داخل سردية القوة والصرامة والنظام.
نشر عام 2016 .