بربطة دبلوماسية بين لغة السلام وصناعة الإبادة في السودان الإمارات.. جنجويد الخليج

كبسولة وعي

بربطة دبلوماسية: بين لغة السلام وصناعة الإبادة في السودان

الإمارات.. جنجويد الخليج

ابوظبي تحاول الظهور كراعٍ للسلام، بينما تغوص فى تمويل وتسليح للمليشيا

البيان الإماراتي بلغ ذروة الوقاحة حين ساوى بين الجيش الدعم السريع

المسؤول عن تجويع المدنيين هو الحليف العسكري والسياسي للإمارات

يكفي أن نستحضر ما عُرف بـ”يوم الوهيلة” أو “عرس الدم” بدبي

صباح المكي
دماء على أيدي من تدّعي السلام
في 15 أبريل 2025، أصدرت دولة الإمارات العربية المتحدة بيانًا بمناسبة مرور عامين على الحرب في السودان، تحاول فيه الظهور كراعٍ للسلام، بينما تغوص في قلب الصراع بتمويلها وتسليحها لمليشيا الدعم السريع. البيان الذي ألقته “لانا نسيبة”، مساعدة وزير الخارجية للشؤون السياسية، لم يكن سوى محاولة فاشلة لتبييض سجل مشوّه، والتغطية على الدعوى المرفوعة ضد الإمارات أمام محكمة العدل الدولية بتهمة التواطؤ في جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب. التوقيت كان مكشوفًا، والنية أكثر انكشافًا: تضليل الرأي العام الدولي، وتجميل صورة نظام يذبح السودان بسلاحه ونفاقه.

قلب الحقائق: تبرئة القتلة وتجريم الضحايا
البيان الإماراتي بلغ ذروة الوقاحة حين ساوى بين القوات المسلحة السودانية – المؤسسة الشرعية التي تدافع عن سيادة البلاد – وبين مليشيا الدعم السريع التي ارتكبت جرائم موثقة ضد المدنيين. لم تجرؤ حتى على تسميتها، بينما اتهمت الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيميائية دون دليل. هذا التزوير يتناقض مع تقارير رسمية تؤكد أن الدعم السريع أعدم 1300 مدني في الجنينة (مجلس الأمن، يناير 2024)، وقصف مخيم زمزم للنازحين (ييل، أبريل 2025)، وارتكب جرائم اغتصاب وخطف واستخدم المدنيين دروعًا بشرية (هيومن رايتس ووتش، العفو الدولية).
رغم هذا السجل الدموي، اختارت الإمارات تبرئة القتلة الذين تموّلهم وتغطيهم، وتجريم القوات المسلحة في مشهد لا يشبه سوى منطق من يدفع بالدم ويصرخ بالسلام.

من يصنع المجاعة؟ من يمنع الإغاثة؟..

من أكثر مزاعم البيان الإماراتي سخرية، اتهام القوات المسلحة السودانية باستخدام “سياسة التجويع”. هذا الاتهام الفارغ مردود على من أطلقه، فالمسؤول الفعلي عن حصار المدنيين وتجويعهم هي مليشيا الدعم السريع، الحليف العسكري والسياسي للإمارات.
هذه المليشيا تمنع دخول المساعدات إلى الفاشر والجنينة، تفرض إتاوات على شاحنات الإغاثة، وتنهب مخازن الهلال الأحمر، وتحتجز العاملين في منظمات إنسانية. هذا ليس اتهامًا سياسيًا بل واقع تؤكده تقارير رسمية من الأمم المتحدة، بما في ذلك تقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (مارس 2024)، تقرير لجنة الخبراء (نوفمبر 2024)، وإفادة منسقة الشؤون الإنسانية (فبراير 2025).
في المقابل، فتحت الحكومة السودانية موانئها وأقامت غرف تنسيق لتسهيل عبور المساعدات. ومع ذلك، تخرج الإمارات – التي تموّل من يقطع الخبز عن الأطفال – لتتّهم من يفتح الممرات بأنه يغلقها. هذا كذب فجّ، لكنه يُقال بثقة من اعتاد شراء الصمت الدولي بالمال.

600 مليون دولار: مساعدات أم ذخائر ؟
تفاخر البيان الإماراتي بتقديم “مساعدات إنسانية” للسودان بقيمة 600 مليون دولار، رقم لم يرد في أي تقرير أممي مستقل أو وثيقة دولية محايدة. وكأن المال يغسل الجريمة أو يُمحى به أثر الدم. لكن الحقيقة أكثر قتامة من الأرقام المنفوخة.
حتى بافتراض صحة هذا الرقم، لم توضح الإمارات كيف تصل هذه “المساعدات” إلى جبهات الدعم السريع عبر طائرات شحن عسكرية، أو كيف تختفي من أجهزة التتبع، لتظهر لاحقًا على أرض المعارك. تقرير France24 Observers الصادر في أبريل 2025 كشف بالأدلة كيف تم شراء قذائف هاون بلغارية لصالح الجيش الإماراتي، ثم إعادة تصديرها سرًا إلى السودان. الصور، الأرقام التسلسلية، وتحليل المصنع كلها أثبتت أن الأسلحة وصلت إلى دارفور برعاية مباشرة من أبوظبي. وفي تقرير أممي لاحق، كُشف عن “جسر جوي” عسكري من الإمارات إلى تشاد، ينقل أسلحة ثقيلة إلى مليشيا الدعم السريع. تلك ليست مساعدات إنسانية، بل دعم حربي سافر، يُدار من خلف ستار دبلوماسي ويُسوّق بعبارات السلام. الإمارات لم تكن يومًا طرفًا إنسانيًا في هذا النزاع، بل كانت الممول، والمحرّض، والمُشغّل السياسي والإعلامي للدمار. لقد غذّت الحرب بالمال والسلاح، وروّجت الأكاذيب، ودعمت خطاب الكراهية والانقسام. فـ”الـ 600 مليون دولار” التي تتفاخر بها لم تكن طحينًا ولا دواء، بل ذخائر مغموسة في دم الأبرياء، ومشحونة بالحقد، ومصقولة بالكراهية.

“القيادة المدنية”: واجهة سياسية لتكريس المشروع الإماراتي وتفكيك الدولة
في خضم هذا التزوير المتواصل، روّج البيان الإماراتي لما أسماه “تشكيل حكومة مستقلة بقيادة مدنية”، في محاولة لتلميع مسار سياسي مفروض من الخارج يخدم مصالح أبوظبي لا مصالح السودان. فمنذ عام 2020، لم تتوقف الإمارات عن تمويل جماعات معارضة للمؤسسة العسكرية، واستضافة قيادات سياسية ترتبط بشبكات تنسيق سرية مع مليشيا الدعم السريع، وتسعى من خلال مؤتمرات لندن وباريس وجنيف ونيروبي إلى فرض مسار مدني مُفصَّل على مقاس مصالحها الاقتصادية والأمنية، خصوصًا في البحر الأحمر ودارفور.
وجوه هذه المبادرات معروفة، من عبد الله حمدوك إلى رموز “قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي”، و”تقدم”، و”صمود”. كلهم يتنقلون بين العواصم بتمويل إماراتي. ما يُسوّق اليوم كمشروع انتقال مدني سوى أداة لشرعنة تفكيك الدولة الوطنية وإقصاء المؤسسة العسكرية، وتمكين عناصر مدنية بلا تفويض شعبي من التحكم بمصير البلاد. والأدهى أن معظم هؤلاء يعيشون اليوم في فنادق أبوظبي ودبي، تحت الحماية السياسية والأمنية للإمارات. هذا ليس انتقالًا ديمقراطيًا، بل مشروع وصاية مغلّف بلغة السياسة، وأداة جديدة لفرض النفوذ.

ساحل القراصنة” يُعَلّم السودان الديمقراطية!
تصل المفارقة إلى ذروتها حين تتجرأ دولة مثل الإمارات، التي لا تعرف صناديق الاقتراع ولا تسمح بقيام الأحزاب أو المظاهرات، أن تقدم نفسها واعظة في شؤون الديمقراطية. لا برلمان، لا تعددية سياسية، ولا انتخابات. وحتى اسمها الرسمي – “الإمارات العربية المتحدة” – لا يعبر عن هوية وطنية حقيقية، بل هو مجرد وصف جغرافي إداري لسبع ممالك صغيرة، لكل منها شيخها وسلطته وميزانيته.
الإمارات، التي عُرفت تاريخيًا باسم “ساحل القراصنة”، لم تكن يومًا دولة تستند إلى عقد اجتماعي أو مؤسسات مدنية. بل كانت محميات بريطانية تفتقر لأبسط مقومات الحكم الحديث: لا مؤسسات، لا تعليم، لا مشاركة سياسية. تأسست كاتحاد صوري عام 1971 برعاية استعمارية بريطانية، ولا تزال حتى اليوم تُدار بنظام وراثي أمني مغلق يقمع الرأي الآخر ويمنع التنظيم السياسي.
الأكثر فظاعة أن نظام الحكم في دولة الإمارات لا يستند إلى شرعية شعبية أو تداول سلمي للسلطة، بل إلى تاريخ طويل من الاغتيالات والانقلابات داخل الأسرة الحاكمة نفسها. ففي الفترة بين عامي 1645 و1966، شهد بيت آل نهيان أكثر من ثماني حالات اغتيال موثقة بين الإخوة، من أجل الاستئثار بكرسي الحكم – كما كشفت جريدة الشرق بتاريخ 4 مارس 2018.
ولم يكن بيت آل مكتوم بمنأى عن هذا المسار الدموي. يكفي أن نستحضر ما عُرف بـ”يوم الوهيلة” أو “عرس الدم” في مارس 1939 بدبي، حيث وقعت مجزرة دموية لتصفية المنافسين من أبناء العمومة على السلطة، وفق ما ورد في جريدة الشرق بتاريخ 6 مايو 2018.
إنه إرث حُكم ممهور بالدم لا يعرف سوى العنف داخل الأسرة الواحدة، يُصدَّر اليوم على أنه نموذج “استقرار” و”قيادة”، بينما هو في جوهره نظام وُلد من دم، وعاش على القمع، ويحاول تصدير وصايته لدول أخرى باسم “السلام” و”القيادة المدنية”.
في الوقت الذي كانت فيه تلك الأرض تخوض حملات مكافحة القمل والأوبئة، كان السودانيون يكتبون التاريخ بثوراتهم السلمية. ففي أكتوبر 1964، أسقط الشعب السوداني أول نظام عسكري في العالم العربي بثورة سلمية غير مسبوقة، قبل أن تكون هناك دولة اسمها الإمارات. ثم عاد الشعب السوداني في أبريل 1985 وسبتمبر 2019 ليؤكد أن الديمقراطية في السودان ليست طموحًا مستورَدًا، بل جزء أصيل من وجدانه وثقافته السياسية.
وما يزيد من مرارة المشهد، أن السودان كان في طليعة من دعم الإمارات في نشأتها. فقد كان أول دولة تعترف رسميًا باتحادها الوليد في ديسمبر 1971، واستقبل مؤسسها الشيخ زايد رحمه الله في أول زيارة رسمية عام 1973. أرسل الإماراتيون أبناءهم للدراسة في جامعات السودان مجانًا، وتخرجوا من كليات الطب والهندسة والعلوم العسكرية. كما صدّر السودان نخبه للعمل في القضاء والتعليم والإعلام والبلديات، ورهن مشروع الجزيرة لتسهيل تمويل الإمارات لاستخراج النفط.
يكفي أن نذكر أن أول رئيس لبلدية أبوظبي كان المهندس السوداني علي أحمد عوض الكريم، وأن كمال حمزة قاد بلدية دبي، بينما أسّس الإعلامي السوداني د. علي شمو البنية الإعلامية الإماراتية عام 1975. ويكفي أن نستحضر العبارة التي قالها الشيخ زايد رحمه الله عام 1972 للمهندس كمال حمزة: “يا كمال.. أبغى دبي تصير مثل الخرطوم”، اعترافًا بتفوّق العاصمة السودانية آنذاك في التنظيم والتخطيط الحضري، مقارنة بصحراء جرداء تتناثر فيها الخيام ومنازل الطين.
واليوم، تتجرأ الإمارات، التي شُيّدت بأيادٍ سودانية، على ادعاء تعليم السودان فنون الديمقراطية، بينما تموّل المليشيات التي تذبح شعبه، وتحرض عليه دوليًا، وتحاول تقويض جيشه وتشويه ثوراته. فكيف لمن لا يعرف معنى الحرية أن ينظّر عنها؟ وكيف لمن لم يمارس الديمقراطية يومًا، أن يفرضها على شعب صنعها بدمه؟ وبأي وجه يقدم نفسه كمعلم لها؟

الخلاصة: لا تُعلّمنا “ساحل القراصنة” فنون الحكم
السودان ليس ساحة للوصاية الخارجية أو تجارب الدول التي تمول المليشيات بينما تزعم الدعوة للسلام. نحن أمة ذات سيادة وحضارة. قديمة منذ الأزل، نقاتل اليوم بمؤسساتنا الوطنية ضد مليشيات إرهابية مدعومة إماراتياً، ونلاحق قتلة شعبنا في المحاكم الدولية. من يريد السلام حقًا، فليبدأ أولًا بوقف تسليح القتلة. فالكلام عن “السلام” لا يُقال بفم يقطر دماً ولا تُكتب الدعوات إليه من خلف صفقات السلاح.
ومن لم يعرف الديمقراطية، لا يحق له التنظير عنها. ومن لم يمارس السياسة إلا من داخل غرف المخابرات، لا يكتب مسارات انتقالية للشعوب. الديمقراطية لا تُستورد من “ساحل القراصنة”، ولا تُفرض من عواصم الغدر. الديمقراطية تُولد من رحم التضحية، من شعب قاوم الظلم، وثار ضد الطغيان، وواجه المؤامرات، ولا يزال واقفًا، مثخنًا بالجراح، لكنه مرفوع الرأس.
وكما قال المتنبي:
“إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا”
فيا حكام أبوظبي، اخسئوا… فلن تعدوا قدركم.