عاش للتنظيم.. رفض الأضواء.. جسد الوفاء .. وحفظ الأمانة…
عوض بابكر .. رحيل “كاتم اسرار الترابي”..
دروس في الوفاء يتركها رجل اختار الصمت طريقاً..
رفيق “الشيخ” في اليسر والعسر يغيب عن الدنيا ويبقى في الذاكرة..
أوراق الترابي السرية كانت بين يدي رجل لا يعرف الخيانة..
من القضارف إلى مركز القرار مسيرة صامتة لصاحب الأمانة..
عوض بابكر دفن جسده بعطبرة وترك أثره في التاريخ..
مواقع التواصل تمتلئ برثاء رجل عاش كبيراً ورحل فى صمت ..
الحركة الإسلامية تودع أحد أنبل أبنائها في زمن الندرة..
المؤتمر الشعبي ينعى أحد أكثر رجاله وفاءً وصدقاً..
تقرير :رحمة عبدالمنعم
في فجرٍ حزين من صباحات الوطن المكلوم، رحل عوض بابكر، أحد أكثر الوجوه التصاقاً بالشيخ الراحل حسن عبد الله الترابي، وأوفى من رافقه في سنوات الجمر والرماد، اليسر والعسر، التنظيم والانقسام، والسجن والسلطة،ولا يعرف الكثيرون مَن هو عوض بابكر، لكن كل من عرف الترابي عن قرب، أو اقترب من صالونه السياسي، أو حضر شيئاً من تفاصيل الحركة الإسلامية في الثلاثين عاماً الماضية، يعرف تماماً من كان هذا الرجل: ظل الشيخ، وحارس أسراره، وكاتم سره، وحامل مفاتيح مكاتبه.
رحيل عوض
وغيّب الموت أمس الثلاثاء بمدينة عطبرة، الأستاذ عوض بابكر، السكرتير الخاص للراحل الدكتور حسن عبد الله الترابي، بعد حياةٍ حافلةٍ بالعطاء في دهاليز الحركة الإسلامية، وبصمتٍ نادر قلّ نظيره..
وقد نعى المؤتمر الشعبي الراحل في بيانٍ صادر عن الأمين العام الدكتور علي الحاج محمد، وممهور بتوقيع الأمانة العامة، حيث عبّروا عن فقدهم “أخاً كريماً ومجاهداً خدم في أروقة الحركة الإسلامية منذ وقت مبكر من سنين عمره، ورافق الشيخ الترابي في سنين اليسر والعسر، وظلّ شاهداً على أدوار ومراحل الانتقال وتجدد المسيرة في المؤتمر الشعبي.
متوسطة القضارف
ولد عوض بابكر وتربّى في بيئة مشبعة بقيم الدعوة والعمل العام، وانضم إلى الحركة الإسلامية منذ أواخر المرحلة المتوسطة، ليواصل نشاطه في المرحلة الثانوية خلال سنوات التحول الكبرى في السودان، في حوارٍ صحفي سابق مع الزميل طلال إسماعيل، قال عوض:”امتحنا الشهادة السودانية في العام 1985، بالتزامن مع ثورة الإنقاذ، وكنا طلاباً في القضارف، استُعين بنا لتسيير مهام تموينية وتنظيم توزيع الوقود، بعد أن تفشّى الفساد في توزيع السلع، فكُلفنا بالمساعدة في تنظيم العملية بما يتوافق مع مبادئ العدالة والشفافية.”
وقد ذكر أنه زامل حينها عدداً من رفاقه، من بينهم الشهيد ياسر محمد إسماعيل، الذي قُتل غدراً في “العزبة” بعد وفاة جون قرنق، وآخرون توزّعوا بين القوات المسلحة، والخدمة المدنية، والمهجر.
رفيق الشيخ
والتحق عوض بابكر بمكتب الشيخ الترابي في بداية التسعينيات، وظل ملازماً له حتى وفاته في العام 2016. لأكثر من عشرين عاماً، أدار عوض شؤون المكتب الخاص، ورافق الترابي في أسفاره، وتنقلاته، ولحظات سجنه، وخلافاته، وتحولاته الفكرية والتنظيمية، دون أن يعلو صوته أو يضطرب موقفه.
وقد ظلّ محتفظاً بأسرار تلك السنوات، ولم ينزلق إلى كشفها بعد وفاة الشيخ، في وفاء نادر يُشهد له به،وبحسب مقربين، فقد ظلّ حريصاً على نقل أمانة المكتب بسلاسة لخلفه تاج الدين بانقا دون ضجيج، أو تطلع لموقع.
مواقع التواصل
وامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بكلمات دامعة من سياسيين وإعلاميين وناشطين، عبروا فيها عن حزنهم العميق لفقدان رجلٍ كان مثالاً للوفاء والتجرد.
وشُيّع جثمان الراحل صباح امس الثلاثاء، إلى مقابر “الشرقي” بمدينة عطبرة، وسط حضور من الأهالي ورفاقه ومحبيه، الذين بكوه بكاء الحزانى، وذكروا مناقبه في ساحات الدعوة والتنظيم والسكوت على الأذى، والعمل الدؤوب خلف الكواليس،لقد دفنوا الجسد، لكن الأثر باقٍ، في الأوراق التي رتّبها بصمت، في الأسرار التي كتمها بأمانة، وفي المشاهد التي لم يتحدث عنها قط.
رحل عوض بابكر، لكنه ترك سيرةً لا تكتبها الصحف وحدها، بل تحفرها الذاكرة الجمعية للحركة الإسلامية، التي تمر اليوم بمنعطفات قاسية، وتبحث بين أوراقها عن أمناء يشبهونه،لم يكن صاحب طموحٍ شخصي، بل صاحب همةٍ جماعية، ولم يكن يسعى إلى كرسي، بل إلى معنى.
برحيل عوض بابكر، تفقد الحركة الإسلامية أحد جنودها المخلصين الذين نذروا حياتهم لفكرتها، ومضوا في دروبها دون أن يتكلموا كثيراً عاش وفيّاً صبورًا، بسيطاً في مظهره، عميقاً في صمته، مهاباً في حضوره رغم قلة كلماته.