عودة( النور )… وبحضور قيادات
قيادات عسكرية وثقافية..
النور الجيلاني ..(ﻭﺩﻱ ﻟﻠﻜﺪﺭﻭ ﺍﻟﺘﺤﻴﺔ)
النور الجيلاني يعود إلى أبو حليمة بعد عامين من النزوح القسري
اهل المنطقة يرددون :(ﻭﺩﻱ ﻟﻠﻜﺪﺭﻭ ﺍﻟﺘﺤﻴﺔ ﺗﻠﻘﻲ ﺯﻭﻝ ﻧﺎﻳﺮ ﺍﻟﻤﺤﻴﺔ )
أبو حليمة تحتفي بعودة أيقونة الفن السوداني ..
مبادرة “رموز المجتمع”جسور ثقافية تعيد المبدعين إلى ديارهم
النور الجيلاني: العودة ليست مجرد رجوع إلى بيت، بل استعادة للحياة
الكرامة : رحمة عبدالمنعم
في مشهد يفيض بالرمزية، عاد الفنان النور الجيلاني إلى منزله في أبو حليمة، بعد أن نُزع عنه قسراً بفعل الحرب التي أحرقت الأخضر واليابس، وهجّرت أهل الديار عن بيوتهم ،لم تكن عودته مجرد رجوع إلى جدران أسكنها الحنين، بل كانت استعادة لصوت الأرض، لصدى الذكريات، وللإلهام الذي طالما غذّى أغنياته ،استقبله أهل الحي كما يُستقبل العائدون من منفًى بعيد، بحفاوة تختلط فيها الدموع بالتصفيق، ووسط حضور رسمي ومجتمعي جسّد انتصار الإرادة على الفوضى ،وردد فيه الأهالي:(ﻭﺩﻱ ﻟﻠﻜﺪﺭﻭ ﺍﻟﺘﺤﻴﺔ ﺗﻠﻘﻲ ﺯﻭﻝ ﻧﺎﻳﺮ ﺍﻟﻤﺤﻴﺔ ﻭﺍﻟﺒﺴﻴﻢ ﺑﺮﻕ ﺍﻟﻌﺸﻴﺔ ﻭﺍﻟﻌﻴﻮﻥ ﻭﻫﺞ ﺍﻟﻬﺪﻳﺔ ﻭﺍﻟﺨﺪﻭﺩ ﻛﻴﻒ ﺑﻠﻮﺭﻳﻪ)
عودة طرزان
في صباح يفيض بالشوق والحنين، عاد الفنان الكبير النور الجيلاني أمس الثلاثاء إلى منزله في منطقة أبو حليمة، بعد عامين من النزوح القسري الذي فرضته الحرب، حين أجبرته اعتداءات مليشيات الدعم السريع على مغادرة داره التي احتضنت بداياته الفنية ،عاد الجيلاني محمولًا على أجنحة الذكريات، تحيط به مظاهر الفرح والترحاب، في مشهد استثنائي يعكس انتصار الإرادة على المحن.
كان في استقباله أهالي المنطقة، الذين وقفوا على جانبي الطريق، ملوّحين بأياديهم، تعلو وجوههم فرحة اللقاء بعد طول غياب، لم يكن هذا الاحتفاء مجرد احتفال بعودة فنان إلى بيته، بل كان رمزًا لعودة الحياة إلى منطقة حاولت الحرب أن تمحو ملامحها ،تقدم الحضور قائد منطقة الكدرو العسكرية اللواء ركن النعمان علي عوض السيد، وقائد القاعدة الجوية اللواء ركن طيار طلال علي الريح، ومدير عام وزارة الثقافة والإعلام الأستاذ الطيب سعد الدين، إلى جانب نجوم المجتمع والمبدعين، الذين حرصوا على مشاركة هذا الحدث الاستثنائي، مؤكدين أن عودة الجيلاني هي استعادة لصوت ظلّ حاضرًا في وجدان السودانيين رغم المحن.
رموز المجتمع
لم تكن عودة النور الجيلاني إلى منزله حدثًا فردياً، بل جاءت ضمن مبادرة “رموز المجتمع”، التي أطلقتها فئات مدنية بدعم من عضو مجلس السيادة الفريق أول ركن ياسر العطا، ومدير عام جهاز الأمن والمخابرات الفريق أول ركن محمد أحمد مفضل، ووالي ولاية الخرطوم السيد أحمد عثمان حمزة،تهدف هذه المبادرة إلى إعادة توطين الفنانين والمبدعين الذين شردتهم الحرب، وتعزيز دورهم في ترميم النسيج الاجتماعي، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن الفن ليس ترفًا، بل قوة قادرة على مواجهة المحن وصناعة الأمل.
وفي هذا السياق، صرّح منسق المبادرة، الصحفي محمد حامد بشير، أن عودة النور الجيلاني ليست مجرد استقرار شخصي، بل هي رسالة أمل تحمل في طياتها دلالة أعمق، مفادها أن الثقافة والفنون تظل صامدة رغم المحن، وأن الوطن الذي حاولت الحرب أن تفرغه من رموزه، يستعيد الآن أبناءه، بفضل قوات الشعب المسلحة، التي أعادت الأمن إلى المنطقة.
صوت لا يُطفأ
وُلد النور الجيلاني عمر محمد نور عام 1944 في أبو حليمة، القرية الصغيرة التي شهدت خطواته الأولى نحو المجد، منذ طفولته، كانت الموسيقى جزءاً من يومياته، حيث درس في مدرسة شمبات الأولية الغربية، قبل أن ينتقل إلى مدرسة الأقباط الوسطى، حيث بدأت تتبلور موهبته الغنائية، كان يُشارك في النشاط المدرسي، يغني أغنيات الحقيبة، ويتلمس طريقه نحو عالم الفن، متأثراً بروّاد الأغنية السودانية مثل خضر بشير، عثمان الشفيع، سيد خليفة، والعاقب محمد الحسن.
لم تكن رحلته نحو النجومية سهلة، فقد بدأ مشواره الفني الحقيقي في أواخر الستينيات من خلال “شلة الصعاليك”، وهي مجموعة شبابية فنية كانت نواة لفرقة “نادي حي الكدرو”. لكن انطلاقته الحقيقية جاءت عام 1970، عندما شارك في مهرجان الناشئين للأغنية الشعبية، حيث فاز بجائزته الأولى عن أغنيته “مادلينا”، التي كتبها الشاعر محمد سعد دياب، ومنذ ذلك الحين، سطع نجمه كفنان متفرد، له لون موسيقي خاص، يجمع بين الغناء الشعبي التقليدي والطرب الحديث.
أغانٍ خالدة
تميّز النور الجيلاني بقدرته على مزج الإيقاعات السودانية بإيقاعات جديدة غير مألوفة، مستلهماً من الإيقاعات الجنوبية الراقصة مثل إيقاع البايو، ما منح أغنياته طابعاً خاصًا جعله يتخطى المحلية إلى فضاء أوسع، تنوعت موضوعات أغنياته بين الحب، والجمال، والطبيعة، والوطن، والقيم الإنسانية، فنجده في “كدراوية” يُمجّد الجمال، وفي “يا مسافر جوبا” يُعبّر عن شجون السودانيين شمالًا وجنوباً، بينما في “فيفيان” يرسم صورة إنسانية تُجسد التعايش بين المكونات السودانية.
أما أغنيته “خواطر فيل”، التي كتبها الشاعر حسن بارا، فقد خرجت عن المألوف، حيث قُدمت بلسان فيل صغير وقع في الأسر، تدعو لحماية الحيوانات وحقوقها، وهي رسالة إنسانية سبقت عصرها. ومن أشهر أعماله أيضًا: “الذكرى المنسية، العصفور، البياح، كدراوية، بعد الصبر، سواح، فيفيان”، وغيرها من الأغنيات التي لا تزال محفورة في وجدان السودانيين.
دموع الفرح
عاش النور الجيلاني، كما عاش آلاف السودانيين، تجربة النزوح القاسي، بعدما تعرّضت محلية بحري لهجمات متكررة من مليشيات الدعم السريع، ما اضطره للجوء إلى أم درمان بحثًا عن الأمان ،لكن رغم البعد عن المكان، ظل صوته حاضراً، وأغنياته تملأ المساحات التي حاولت الحرب أن تُفرغها من الحياة.
وعندما استعاد الجيش السيطرة على أبو حليمة، كان المشهد أشبه بعودة الطيور إلى أعشاشها بعد عاصفة طويلة، عاد النور إلى منزله الذي بقي شاهداً على رحلة امتدت عقودًا، وكان لقاءه بأهله وأحبائه أشبه بلحظة ميلاد جديدة، حيث اختلطت دموع الفرح بذكريات الأيام الصعبة، لكن الأهم أن الوطن بدأ يستعيد أبناءه، واحدًا تلو الآخر.
رسالة النور
في كلماته الأولى بعد العودة، قال النور الجيلاني:”العودة ليست مجرد رجوع إلى بيت، بل استعادة للروح، واستعادة للحياة التي لن تهزمها الحرب.”
بهذه العبارة، لخص النور مغزى اللحظة، مؤكداً أن الفن ليس مجرد أغانٍ تُؤدى، بل هو ذاكرة مجتمع، وشاهد على زمن، ورسالة تُقاوم النسيان.
وهكذا، بعد كل هذه السنوات، وبعد محنة النزوح القاسية، يعود النور الجيلاني إلى حيث بدأ كل شيء، وكأن الزمن قرر أن يمنحه فرصة أخيرة ليقول للعالم: “أنا هنا، والفن لا يموت.”