كبسولة وعي
تواطؤ القانون والسياسة
أمام محكمة العدل الدولية:
قراءة للتدخل الصربي في قضية السودان ضد الإمارات ..
علاقة صربيا والامارات محكومة بشبكة من المصالح والاستثمارات والعلاقات الأمنية.
سبق لصربيا أن وُضعت في قفص الاتهام ذاته خلال قضية البوسنة والهرسك ..
ماحدث .. اصطفاف سياسي مؤطر بمرافعة قانونية أنيقة..
صباح المكي
مقدمة: العدالة بين النصوص والتحالفات — كيف تتحوّل المرافعة القانونية إلى مشروع سياسي؟
في السادس عشر من أبريل 2025، تقدمت جمهورية صربيا بإعلان تدخل رسمي أمام محكمة العدل الدولية (ICJ) في القضية التي رفعتها جمهورية السودان ضد الإمارات العربية المتحدة، بتهمة التورط في دعم أعمال ترتقي إلى مصاف جريمة الإبادة الجماعية.
ومع أن بلغراد قدّمت هذا التدخل باعتباره ممارسةً تقنية لحق مكفول في إطار تفسير اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، فإن هذا الإجراء لا يمكن قراءته بمعزل عن ما يتجاوز ظاهر النصوص القانونية.
فالتدخل الصربي لا يعكس فقط موقفًا قانونيًا بحتًا حول تفسير المادة التاسعة — المادة التي تمنح المحكمة الاختصاص للنظر في النزاعات بين الدول بشأن الاتفاقية — بل ينطوي على ما هو أعمق: موقف سياسي محسوب، واصطفاف استراتيجي يتجاوز قاعة المحكمة إلى خريطة التحالفات وموازين القوى.
لقد شهد النظام القضائي الدولي، على مدار العقود الماضية، كيف تحوّلت التحفظات القانونية إلى أدوات حصانة لا أدوات مساءلة، تستخدمها بعض الدول كجدران عازلة بين ساحات الجرائم الكبرى ومنابر العدالة. لكن ما يميز هذا التدخل تحديدًا هو أنه لا يُخفي انحيازه بقدر ما يُلبسه ثوب الشرعية القانونية، في مشهد يتقاطع فيه القانون مع ضرورات السياسة وتكتيكات التحالف.
يبقى السؤال الجوهري معلقًا:
هل ما تقدمه صربيا أمام لاهاي هو دفاع مبدئي عن قواعد الاختصاص؟ أم أنه فصل آخر في مسار إعادة تعريف العدالة الدولية بما يتلاءم مع خرائط الاصطفاف الجيوسياسي؟
وهل يمكن — في ظل هذا المنطق — أن يبقى الحق في ملاحقة الجرائم الكبرى مشروطًا بموافقة المتهمين على المثول أمام المحكمة؟
هذه الأسئلة تقف في صلب هذا المقال، الذي يسعى إلى تفكيك خطاب التدخل الصربي، عبر قراءة نقدية تتجاوز ظاهر المرافعات القانونية إلى عمق حسابات المصالح وشبكات التحالف.
المادة التاسعة : حين يصبح النص حصنًا للامتناع لا جسرًا للمساءلة
محور التدخل الصربي يدور حول تفسير المادة التاسعة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، والتي تُخول محكمة العدل الدولية صلاحية النظر في النزاعات المتعلقة بتفسير أو تطبيق الاتفاقية.
غير أن الإمارات، كما صربيا، قد أبدتا تحفظًا صريحًا على هذه المادة، اشترطتا فيه ألا تخضع أي منهما لاختصاص المحكمة دون موافقة مسبقة ومعلنة.
صربيا، إذ تستند إلى هذا التحفظ، ترفع لواء الشرعية القانونية مدعية أن هذا الحق مكفول بموجب اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، لا سيما المواد (19 إلى 23). وبذلك، فهي تدفع بأن المحكمة تفتقر إلى الولاية القضائية للنظر في الدعوى السودانية، استنادًا إلى أن الإمارات لم تُبدِ موافقتها.
لكن هذا الدفاع، في جوهره، يتجاوز القراءة الحرفية للنصوص إلى ما هو أبعد من ذلك: هو إشهار للتحفظ كدرعٍ سيادي يحول دون بلوغ العدالة أبواب الجناة.
سياط الذاكرة: عقدة البوسنة وهاجس السوابق في الحسابات الصربية..
لا يمكن عزل هذا التدخل عن السياق التاريخي الذي يثقل الذاكرة السياسية والقانونية لبلغراد، فقد سبق لصربيا أن وُضعت في قفص الاتهام ذاته خلال القضية التي رفعتها البوسنة والهرسك أمام محكمة العدل الدولية، والتي انتهت في 2007 بإدانة صربيا بالإخفاق في منع جريمة الإبادة الجماعية خلال حرب البلقان، رغم تبرئتها من التورط المباشر في ارتكابها.
ذلك الإرث القضائي لم يغادر الأذهان في بلغراد، بل شكّل دافعًا مركزيًا لتمسكها الشديد بشرعية التحفظات كأداة لحماية النفس من المقاضاة المستقبلية. ليس عبثًا أن تتصدر صربيا مشهد الدفاع عن مفهوم “الاختصاص المشروط بالموافقة”، إذ ترى فيه صمام أمان يحول دون فتح أي ملفات قد تعيد نبش جراح الماضي.
من هنا، فإن تدخلها في قضية السودان ليس حيادًا قانونيًا كما تزعم، بل هو دفاع عن الذات قبل أن يكون دفاعًا عن الحليف.
التحفظات كسلاح دبلوماسي: حين يختبئ الاصطفاف السياسي وراء قناع القانون
يخطئ من يتصور أن هذا التدخل يقتصر على مناقشة إجرائية باردة حول تفسير بند من بنود الاتفاقية. فالعلاقة التي تجمع صربيا بالإمارات تتجاوز بكثير حدود المجاملة الدبلوماسية. هي شراكة راسخة، محكومة بشبكة من المصالح والاستثمارات والعلاقات الأمنية.
تكفي الإشارة هنا إلى ما كشفته تحقيقات Balkan Insight حول منح محمد دحلان — المستشار السياسي المقرب من الرئيس الإماراتي محمد بن زايد — الجنسية الصربية له ولأفراد عائلته وعدد من معاونيه ما بين عامي 2013 و2014، كجزء من مشروع أوسع لبسط النفوذ السياسي والاقتصادي الإماراتي في البلقان.
تحت هذه المظلة من التشابكات، يصعب تصديق أن الموقف الصربي ينبع من قناعة قانونية خالصة. إنما هو، في حقيقته، اصطفاف سياسي مؤطر بمرافعة قانونية أنيقة.
الإفلات من العقاب: حين يُعاد تعريف العدالة بمنطق التحفظات..
ما هو معروض اليوم أمام المحكمة لا يخص فقط مصير القضية السودانية، بل يمس جوهر النظام القضائي الدولي برمته. فإذا ما أقرّت المحكمة بشرعية هذا النوع من التحفظات، فإنها ستُكرّس سابقة تُتيح لأي دولة أن تُعطل مفاعيل الاتفاقية نفسها، متى شاءت وبالطريقة التي تراها مناسبة، ما دامت قد أودعت تحفظًا شكليًا عند توقيعها أو انضمامها.
وهنا يكمن الخطر الحقيقي: تحويل النصوص التي صيغت لحماية الضحايا إلى حصون تقي الجناة من المساءلة، وتجريد المجتمع الدولي من أهم أدواته في التصدي للجرائم الأشد خطورة.
هذه ليست فقط مناورة قانونية. إنها إعادة صياغة للعلاقة بين السيادة والعدالة، حيث تُخضع الجرائم الكبرى لشرط “الرضا المسبق” لمن يُفترض أنهم الجناة المحتملون.
التداعيات على المسرح الدولي: اهتزاز ركائز النظام القضائي الدولي
لا تنحصر تداعيات التدخل الصربي في أروقة لاهاي، بل تمتد إلى قلب النظام الدولي. إذا ما أصبحت التحفظات ذريعة مشروعة لتعطيل الاختصاص القضائي في قضايا الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، فإن ذلك يعني تقويض الإطار القانوني الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، والذي كان يُفترض أن يحول دون إفلات المجرمين من العقاب.
إن القبول بهذا المنطق سيُفضي إلى عصر جديد من الحصانات المقنّعة، حيث تتحول الاتفاقيات الدولية إلى نصوص فارغة، تتعايش مع الانتهاكات بدلًا من أن تضع حدًا لها.
الخاتمة: العدالة بين السيادة والتواطؤ — حين تُباع المحاسبة بورقة تحفظ
لا يكشف إعلان التدخل الصربي في قضية السودان ضد الإمارات عن مجرد اجتهاد قانوني في تفسير نصوص الاتفاقية، بل يُجسد حالة نموذجية صارخة لطريقة توظيف القانون كأداة لتعزيز الحصانات لا لكسرها، ولتحصين الحلفاء بدلًا من مساءلتهم. قد يكون البيان القانوني الذي قدّمته بلغراد مصاغًا بلغة قانونية منضبطة، لكنه لا يُخفي الغاية الحقيقية الكامنة خلفه: حماية الذات وخدمة الاصطفاف السياسي على حساب جوهر العدالة.
في هذا المشهد، لم تبدأ المعركة عند مناقشة الأدلة أو الوقائع، بل بدأت عند رسم حدود الاختصاص ذاته — معركة على تعريف من يملك الحق في أن يُحاسب، ومن يملك أن يرفض مجرد المثول أمام العدالة، بصرف النظر عن جسامة التهم وخطورة الجرائم.
إن خطورة ما يجري لا تقتصر على هذه القضية وحدها، بل تتجاوزها إلى جوهر النظام القضائي الدولي برمته. فإذا ما أقرّت المحكمة بشرعية هذا النوع من التحفظات كجدار يمنعها من مباشرة اختصاصها في قضايا الإبادة الجماعية، فإن ما سنشهده لن يكون فقط انتصارًا للإفلات من العقاب، بل إعادة هندسة كاملة لمفهوم العدالة ذاتها — حيث تتحوّل المحاكم إلى هياكل جوفاء، تردد النصوص دون أن تتمكن من تنفيذها، وتُحرم الضحايا من أبسط حقوقهم في المطالبة بالإنصاف.
في ظل هذا الواقع، يتجاوز السؤال حدود الوقائع ليمس جوهر المبادئ:
هل العدالة الدولية التزام أخلاقي وقانوني يتجاوز حدود السيادة؟ أم أنها مجرد بند تفاوضي آخر على طاولة اللاعبين الكبار؟
لقد آن الأوان للاعتراف بأن المعركة الحقيقية لا تدور حول إثبات الأفعال أو المسؤوليات فحسب، بل حول إمكانية وجود عدالة دولية فاعلة لا تخضع لمزاج السيادة ولا تُباع بورقة تحفظ.
وفي هذا المشهد المأزوم، تبقى الأرواح التي أُزهقت، كما في البوسنة ودارفور، معلقة في فراغ قانوني صنعته التحفظات والسياسات، حيث تُمنح الجريمة حصانة باسم السيادة، ويُؤجل الحساب إلى أجل غير مسمى.
في زمن تُباع فيه العدالة بورقة تحفظ، لا يُحاكم الجناة — بل يُمنحون حق الامتناع.
#كل_القوة_دارفور_جوه
#القوات_المسلحة_السودانية_تمثلني
#الجيش_السوداني_يمثلني
bitalmakki@gmail.com