لِلْحَقِيقَةِ لِسَانٌ
رحمة عبد المنعم
الاختفاء القسري…وجه آخر لجرائم الميليشيا
في دفترِ الحروبِ، تُسجِّلُ البنادقُ سطوراً لا تُمحى، لكن ما لا تُدوِّنُه الكاميراتُ، ولا تصلُ إليه أعينُ العدالةِ بسهولة، هو ذلك النوعُ من الفقدِ الذي لا يُقاسُ بالموت، بل بالغياب…الغيابِ القسريّ في السودان الذي يتلوّى منذ أكثر من عامين تحت نيرانِ الحربِ بين الجيشِ وميليشيا الدعمِ السريع، تطفو على السطحِ مأساةٌ لا تقلُّ فظاعةً عن القتلِ: آلافٌ اختفوا، لا يُعرَفُ عنهم شيءٌ، كأنّ الأرضَ ابتلعتهم.
في جنيف، سلَّمَ النائبُ العامُّ، مولانا الفاتح محمد عيسى طيفور، التقريرَ المرحليَّ الثالثَ للجنةِ الوطنيةِ للتحقيق إلى لجنةِ الأممِ المتحدةِ المعنيَّةِ بالاختفاءِ القسريّ،الرقمُ وحدَهُ يعكسُ حجمَ الكارثةِ: 14,506 بلاغات اختفاءٍ قسريٍّ حتى نهايةِ الشهرِ الماضي،رقمٌ لا يُمثِّل فقط حالاتٍ فردية، بل يُجسِّدُ ظروفًا أمنيةً استثنائيةً فرضتْها سيطرةُ الميليشيا على أجزاءٍ من البلاد، وتراجعُ دورِ المؤسساتِ الرسميةِ في تلك المناطق، قبل أن يستعيدَ الجيشُ السيطرةَ عليها.
اللافتُ في التقريرِ، أنّ هذه الحالاتِ ظهرت إلى العلنِ بعد تحريرِ مناطق الخرطوم والجزيرة وسنار من سيطرةِ ميليشيا الدعمِ السريع،عودةُ سلطاتِ النيابةِ والشرطةِ إلى أداءِ مهامِّها كشفتِ المستور، وأطلقتْ شكاوى المواطنينَ الذين احتفظوا بالخوفِ طويلًا داخلَ صدورهم؛ فقد كانت الميليشيا تُسيطر، وتُداهم، وتعتقل،وتُخفي، دون رقيبٍ أو حساب،وفي صمتِ الجدرانِ، كانت الأرواحُ تُنتزعُ بلا ضجيج.
تحدَّثَ النائبُ العامُّ عن اكتشافِ 965 مقبرةً جماعيةً في المناطقِ المُحرَّرة،وهذه ليستْ مجردَ أرقامٍ في تقاريرَ، بل شواهدُ دامغةٌ على وجودِ آلةِ موتٍ عشوائيٍّ ومنهجيّ، لم تُميِّزْ بين مدنيٍّ وعسكريّ، ولا بين رجلٍ وامرأة،بعضُ الضحايا ماتوا نتيجةَ التعذيب، وآخرون اختفوا ولم يُعثرْ لهم على أثرٍ حتى الآن،كلُّ قبرٍ من تلك القبورِ يحكي حكايةً، وكلُّ عائلةٍ تنتظرُ خبراً من الغائبين الذين خرجوا ولم يعودوا.
لكنّ القضيةَ لا تقتصرُ على السودانيينَ فقط؛ ففي جلسةٍ حواريةٍ أُقيمتْ في كمبالا، ضمنَ حملة “أصواتُ السلام”، كشفتِ الباحثةُ أسماءُ عبد الرحيم، من المركزِ الإفريقيِّ للعدالةِ والسلام، عن حالاتِ اختفاءٍ قسريٍّ للاجئينَ ومهاجرينَ من إريتريا، وجنوبِ السودان، وإثيوبيا، واليمن،ضحايا بلا دولةٍ تحميهم، ضاعوا بين جبهاتِ القتالِ، دون صوتٍ يُطالبُ بهم، أو صحيفةٍ تنشرُ أسماءهم.
مِحنةُ المهاجرينَ المفقودينَ تُعرِّي النظامَ الدوليَّ، الذي لا يزالُ يُعاملُ الحروبَ الإفريقيةَ كخبرٍ ثانويٍّ في نشراتِ المساء، بينما يُتركُ هؤلاءِ على هامشِ الاهتمام، وتبقى عائلاتُهم في طيِّ الحيرةِ والألم.
قضيةُ الاختفاءِ القسريِّ في السودان ليستْ حالةً عرَضية، بل هي جريمةٌ منظّمةٌ تحملُ سماتِ الجرائمِ ضدَّ الإنسانية، تُمارسُ وسطَ التعتيمِ الإعلاميِّ، وتغيبُ عنها الإرادةُ الدوليةُ الفاعلة،هنا، لا يكفي التوثيقُ، ولا تَنوبُ الملفاتُ عن العدالة؛ فهذه البلادُ التي تشهدُ مرحلةً مفصليةً نحو بناءِ دولةِ ما بعدَ الحرب، لا يمكنُ أن تخرجَ من هذا النفقِ دون مواجهةِ هذه الحقيقةِ كاملةً، وبجرأةٍ لا تعرفُ المجاملة،في الحروبِ، كثيرونَ يسقطون، لكنَّ الأسوأَ أن يسقطَ البعضُ في النسيان،ولعلَّ أولَ خطوةٍ للنجاة، هي أن لا ننسى.
ولقد كشفتِ الانتصاراتُ الميدانيةُ التي حقَّقها الجيشُ، ليس فقط عن قدرتِه العسكرية، بل عن مسؤوليته الوطنية في إعادة القانون والعدالة، وفضحِ الجرائمِ التي ارتُكبت بحقِّ الأبرياءِ.