هناك فرق مني أبوزيد موتى قبل الحرب وموتى بعدها..!

هناك فرق
مني أبوزيد
موتى قبل الحرب وموتى بعدها..!

*”النجاة ليست أن تخرج حياً من الموت، بل أن تخرج منه وفي يدك حكاية تُروى، وفي قلبك مكان لا يزال يتّسع للحنين”.. الكاتبة..!*

في مقاله “من اللعوتة إلى نيويورك” كان البروفيسور عبد اللطيف البوني يكتب على شاشة هاتفه، بعدما “شفشف” لصوص المليشيا جهاز اللابتوب والكرسي والمنضدة وحتى القدرة على النظر..!

لكنه كتب، لا لينقل خبراً، بل ليفضح المسكوت عنه، فيقول بأن الخراب لا يبدأ بالقنابل، بل بالخيبة، ولا ينتهي بالنزوح، بل بالتحول. هو لم يغادر بيته فقط، بل غادر نفسه..!

قالها كمن يمسك مرآة ويفاجأ برجل لا يعرفه “أنا الآن غيري”، وما الحرب في حقيقتها إلا هذه الحيلة الكبرى التي تسرق منا وجوهنا القديمة وأحلامنا الصغيرة، وتعيدنا إلينا غرباء..!

الحرب لا تحتاج إلى الرصاص دائماً لكي تقتلنا، أحياناً يكفي أن ترى في عين أمك خوفاً لم تعهده، أن تتعلم كيف تمشي دون ظل، وأن تضحك بصوت مكتوم كي لا يعرفك الموت..!

اللعوتة التي تحدث عنها بروف البوني لم تكن قرية فحسب، بل مختبراً للانهيار الأخلاقي، حيث يقف المجرم على باب البيت الذي سرقه، ويعرض أثاثه المسروق للبيع. نحن لم نكن نحارب جنوداً بل كائنات متحولة، أبناء لوطن لا يعرفونه..!

وفي قلب هذا كله، كانت الكنابي تقدم درساً في المعنى الإنساني للمواطنة، عندما احتضنت من هجرتهم الحرب، دون أن تسألهم عن قبيلتهم أو بطاقاتهم. الكنابي التي كثيراً ما وصمت بالهامش، أثبتت أنها ليست ظلاً للقرى الكبيرة، بل ضوءاً خافتاً في عتمة وطنية شاسعة،. ضميراً مكلوماً لكنه لا يتاجر في الأوجاع..!

الرصاصة التي قتلت الشاب مهند، كما يقول بروف البوني، كانت فقط نهاية سلسلة طويلة من الانحطاط السياسي. فالقاتل في اللعوتة قد يكون ضحية في نيالا، والسارق في الكاملين قد يكون جائعاً في أم درمان..!

الحرب بهذا المعنى لا تقسمنا إلى جناة وضحايا، بل تكشف كم نحن غرقى في لجة واحدة، مهما تنوعت الأسماء والنيات، جميعنا ندفع ثمناً، حتى أولئك الذين يظنون أنهم انتصروا..!

ووسط كل هذا الانهيار، تنهض معظم الأسر بأموال المغتربين، وبكبرياءٍ لا يمسّه الخراب،وكأنهم يصيحون في وجه العالم “لسنا إحصائية، لسنا خبراً عابراً في نشرات التاسعة، بل نحن الأحياء الذين مر عليهم الموت، ولم يقبلهم”..!

الخراب إذن ليس في ما يُؤخذ منك، بل في ما يُزرع في داخلك بعد ذلك. أن تبقى حياً في زمن مثل هذا، يعني أن تكون مشروع مقاومة، حتى وإن كنت تجر قدمك خلفك، أو تبحث عن نظارتك بين الركام!.

munaabuzaid2@gmail.com