للحقيقة لسان رحمة عبدالمنعم مرآة الإنسانية

للحقيقة لسان

رحمة عبدالمنعم

مرآة الإنسانية

الحرب، بطبيعتها، ليست مجرد نيران مشتعلة أو صراعًا على البقاء، بل هي أيضًا امتحان عسير للنفوس، تكشف عن معدن الإنسان في أوقات المحن، منذ اندلاع الحرب في السودان، لم نكن فقط شهودًا على الدمار والخراب، بل شهدنا أيضًا تحولات عميقة في القيم والمبادئ لدى البعض، تلك المبادئ التي كنا نظنها راسخة، بدت فجأة وكأنها أوهام تبخّرت تحت وطأة الجشع واستغلال الظروف

في مدننا الآمنة، وفي القرى التي لم تصلها نيران المعارك، برزت مأساة أخرى أشد إيلامًا، لأنها من صنع أيادينا، استغل ضعاف النفوس مأساة النازحين، فتحوّلت البيوت التي كان يُفترض أن تكون ملاذًا ورحمة إلى أدوات ابتزاز ،ارتفعت الإيجارات إلى أرقام خيالية، ليُطلب من النازح، الذي فقد بيته وأمانه، أن يدفع ثمن غرفتين أو حتى غرفة بسيطة أكثر من مليون جنيه، هذه البيوت التي تكاد تفتقر إلى أبسط مقومات السكن الكريم، أصبحت تجارة مربحة للبعض، وأداة لإثقال كاهل من جاء يبحث عن مأوى

ليس هذا فحسب، بل تضاعفت أسعار المواد الغذائية بشكل جنوني، وكأن الحرب لم تكن كافية لتدمير حياة الناس، فجاء الجشع ليكمل ما بدأته البنادق، أصبحت لقمة العيش حلمًا بعيد المنال لكثير من الأسر، وصار البقاء ذاته معركة يومية

وما يزيد الألم أن بعض الروابط الاجتماعية، التي كنا نعتقد أنها عصية على الانهيار، بدأت تتصدع ،تلك القيم التي كانت تميز مجتمعاتنا، من تكافل وتعاضد، بدأت تخبو في بعض النفوس. تخلى البعض عن أقاربهم وعن واجبهم الأخلاقي في مد يد العون، متذرعين بالظروف الصعبة، وكأن الحرب منحتهم عذرًا للتخلي عن إنسانيتهم

ولكن، على الرغم من كل ذلك، فإن الحرب، وإن كانت تكشف أسوأ ما فينا، تظل دعوة للتأمل والمراجعة، ربما تكون هذه المآسي فرصة لإعادة النظر في قيمنا، في علاقاتنا، وفي أنفسنا، ما نمر به اليوم هو اختبار صعب، لكن الأمل يظل معقودًا على من بقيت لديهم ذرة من النبل والإنسانية، أولئك الذين يرفضون أن يُسحقوا تحت وطأة الجشع والمصلحة الذاتية

إن مأساة الحرب ليست فقط في ضحاياها المباشرين، بل فيما تكشفه عن أرواحنا ،علينا أن نتساءل: هل سنسمح لهذه الحرب أن تهزمنا مرتين؟ مرةً في ميادين القتال، ومرةً في نفوسنا؟ أم سنجد في أنفسنا القوة لننهض، لنعيد بناء ما تهدم، ليس فقط في بيوتنا ومدننا، بل أيضًا في قيمنا وأخلاقنا؟

الحرب في السودان ليست مجرد مأساة عابرة، إنها مرآة، وما تعكسه لنا يستحق أن نقف عنده طويلًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top