.
.
منى أبوزيد
- هناك فرق – علي كوشيب ذلك المجهول..!
ما دلَّني أحدٌ عليَّ، أنا الدليل، كلُّما فتَّشْت عنْهمْ لم أجد فيهم سوى نفسي الغريبة،فهل أنا الفرْد الحشود، وأنا الغريب، هل أؤدٌي جيٌِدا دوْري من الفصل الأخير”.. محمود درويش..!
كنت أبحث عن مدخل بسيط لموضوع هذا المقال – الذي تشبه كتابته تناول طبق كامل من التين المجفف على الريق – فلم أجد مدخلاً أكثر طرافةً من فيديو كليب “المعادلة الصعبة” الذي ذاع صيته بين أبناء جيلي من مراهقي التسعينيَّات ..!
كانت الموضة في تلك الأيام أن تكون البطلة حسناء أجنبية تمارس شتى صنوف التَمنُّع والدلال على البطل – الذي يكون في الغالب هو المطرب صاحب الأغنية نفسه – فيبثها أشواقه ولواعجه وهو يتراقص على أنغام الموسيقى ..!
هذا هو بالضبط ما فعله الفنان راغب علامة وهو يردد كلمات تلك الأغنية التي كان ظاهرها البساطة وباطنها أكثر أسئلة الفلسفة الوجودية تعقيداً من حيث التشكيك في ماهية الإنسان نفسه “أنا مش أنا ولا إنتي إنتي، ولولايا أنا ما كنتي إنتي” ..!
قبل أن يطلق الفنان راغب علامة “حجوته” الوجودية الخاصة به على طريقته الراقصة تلك بنحو ثمانين عاماً حصل الطبيب والجراح الفرنسي ألكسيس كاريل على جائزة نوبل في الطب عن مجمل الأسئلة والإجابات العلمية المضمنة في كتابه الشهير “الإنسان ذلك المجهول” ..!
وقبل كاريل قسَْم جان بول سارتر وجود الإنسان إلى وجود في ذاته “داخل العالم المادي” ووجود لذاته “في وعي ذات الإنسان بوجودها وبالعالم المحيط بها” ..!
معادلة الوعي تلك هي خلاصة القلق الوجودي الذي يُقذَف بالإنسان فيه من العدم إلى الوجود قبل أن يعود إلى ذات العدم، ودون إرادته في كلا الحالين، وكأن الحياة نفسها محض استراحة قصيرة بين عدمين..!
وقبل سارتر لمْلَم المتنبي شعَث الجملة الوجودية الشهيرة “الجحيم هو الآخرون” في بيتين من الشعر “أعيذُها نظراتٍ منكَ صادقةً أن تَحْسبَ الشَّحمَ في مَن شَحْمُهُ ورَمُ .. وما انتفاعُ أخي الدُّنيا بناظرِهِ إذا استَوَت عندَهُ الأنوارُ والظُّلَمُ”..!
من الطرائف التي تصور فداحة الخطأ في تصنيف الشحم والورم حكاية كان الزملاء في كلية القانون ينسِبُونها إلى أحد الأساتذة الذين اشتهروا بين الطلبة بحديثهم اللاذع ..!
تقول تلك الحكاية إن مجموعة من البرالمة حمَلَة الشهادات العربيَّة ذهبوا إلى ذلك الأستاذ يطلبون تفعيل خيار الإجابة باللغة العربية في امتحان إحدى المواد التي كانت تُدرَّس باللغة الإنجليزية، وقبل أن يعترض أخبروه أن زملاءهم من حملة الشهادة السودانية أيضاً يطالبون بتفعيل ذات الخيار ..!
الأستاذ الذي أسقط في يده طلب منهم أن ياتوه بزول من حملة الشهادة السودانية لكي يكون شاهداً على صحة مزاعم هم، وعندما أتوا به سأله عن درجته في امتحان اللغة الإنجليزية..!
تنحنح الزول قليلاً قبل أن يعترف بدرجة هزيلة كانت تقف بالكاد على أعتاب النجاح، فالتفت الأستاذ إلى بقية الطلبة وصاح فيهم قائلاً “يا جماعة أنا قلت ليكم جيبوا لي زول”..!
وهي كنا ترى من المواقف النادرة التي قد يختلف الناس فيها حول ماهية كونك زولاً أم لا، على أساس تصنيف أكاديمي لا يستصحب دخولك مع هؤلاء أو أولئك في تصنيف الإنسانية، فيكون من حقك حينها أن تهتف “أنا مش أنا ولا إنتوا إنتوا”..!
هنالك أيضاً علاقة ما بين أن تنتمي إلى مليشيا الجنجويد وأن تكون هنالك معضلة بشأن هويتك أو وجودك من أساسه، سواء كنت حميدتي – الذي لا يستطيع أي سوداني حتى الآن أن يقسم جازماً بشأن حياته أو موته – أو كنت على كوشيب الماثل أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور قبل أكثر من عشرين عاماً..!
من طرائف شر البلية – أو شر البرية إن شئت – أن على كوشيب هذا قد أخذها من قصيرها في آخر جلسات محاكمته، فأنكر أنه “كوشيب” من أساسه..!
قال بذلك أمام المحكمة الجنائية الدولية، ولسان حاله “أنا مش أنا”!.
munaabuzaid2@gmail.com