كبسولة وعي
خيوط المشروع الخطير، من مصانع ألسلاح فى بلغاريا الى مستودعات “انترناشيونال قولدن قروب”
إمارات “سيقان الدجاجة” : أداة حرب بالوكالة في مشروع دولي لتفكيك السودان (2)
صباح المكي
أنظمة فرنسية الصنع على عربات “نمر” الإماراتية، التي استخدمتها المليشيا
تورط يتجاوز الصفقات الاقتصادية إلى المشاركة في صناعة المأساة السودانية
ما يحدث بالسودان جزء من بنية هندسية لصراعات تُدار بالوكالة
بينما تتصدر الإمارات مشهد التنفيذ على الأرض، فإن مشهد التخطيط والتمويل والتسليح يتجاوز حدود الخليج إلى أوروبا والولايات المتحدة. ليست هذه حرب ميليشيات معزولة، بل مشروع دولي متكامل تديره شركات السلاح الكبرى، وتُباركه الحكومات الغربية خلف شعارات “القلق الإنساني” و”الدعم الإقليمي للسلام”. في هذا الجزء الثاني من التحقيق، نسلّط الضوء على تورط الشركات الفرنسية والأوروبية، ونتتبع خيوط الإمداد والتواطؤ من مصانع الأسلحة إلى ميادين الإبادة، ومن معارض الدفاع إلى مآسي المخيمات والأسواق المنكوبة. هنا، تتقاطع المصالح الاقتصادية مع الرغبة في إعادة هندسة السودان سياسياً وأمنياً، عبر عملية تصفية ممنهجة لمؤسسات الدولة وضرب آخر معاقل سيادتها تحت غطاء الدبلوماسية ووعود التنمية.
شركاء في الجريمة: فرنسا وأوروبا بين القلق البروتوكولي والتواطؤ التجاري
الانكشاف الأخطر في المشهد السوداني هو تورط شركات فرنسية كـKNDS وThales وSafran في توريد مكونات ظهرت في ميادين المعارك، ليس دفاعًا عن حلفاء، بل في إطار اقتصاد سياسي لتجارة الحروب يدر المليارات سنويًا، فرنسا التي تزعم أنها راعية لقيم حقوق الإنسان تقف اليوم شريكًا أصيلًا في تسليح طرف متهم بالإبادة الجماعية، متجاهلة تمامًا استخدام أنظمتها الدفاعية ضد مخيمات اللاجئين والأسواق والمدارس.
ما كشفته التقارير عن ظهور أنظمة فرنسية الصنع على عربات “نمر” الإماراتية، التي استخدمتها قوات الدعم السريع لقصف الأحياء المدنية، يكشف عن تورط يتجاوز حدود الصفقات الاقتصادية إلى المشاركة المباشرة في صناعة المأساة السودانية، وفيما كانت دارفور تحترق، كان وزير الجيوش الفرنسي يتجول في معرض “آيدكس 2025” إلى جانب العتاد ذاته المستخدم في هذه الجرائم.
الأسوأ من ذلك، هو هذا الانفصام السياسي الأوروبي: من جهة مؤتمرات تدعو للسلام في السودان، ومن جهة أخرى صفقات أسلحة تُوقَّع مع أطراف متهمة بارتكاب الفظائع. لم يعد هذا النفاق مجرد ازدواجية في الخطاب، بل أصبح جزءًا راسخًا من منظومة تجارة الحروب التي يغذيها الاقتصاد الغربي ويغلفها الخطاب الدبلوماسي. لا أحد يسائل، لا أحد يراجع، وكل ما يُقال لا يتجاوز بيانات “القلق العميق”.
المنظومة الأوروبية، وفي صدارتها باريس، تعيد تعريف القانون الدولي كأداة انتقائية تُطبّق فقط على من يهدد مصالحها المباشرة، بينما تُغض الطرف عن حلفائها، مهما بلغت جرائمهم من وحشية هذا ليس خللًا في النظام الدولي، بل تصميم مقصود يشرعن الفوضى حين تخدم مصالح المركز الغربي.
وما يجري في السودان ليس استثناءً، بل جزء من بنية هندسية لصراعات تُدار بالوكالة، تُبرَّر دبلوماسيًا وتُغذّى ماليًا، تحت مظلة خطاب “السلام” و”الاستقرار”، بينما الحقيقة هي إعادة إنتاج الخراب بوسائل ناعمة لكنها قاتلة.
خريطة الخراب: كيف تتحول مسارات السلام إلى أدوات استعمار ناعم
ما يدور في السودان اليوم هو عدوان سياسي وأمني واقتصادي تُديره الإمارات كمُنفذ ميداني، وتغذّيه شركات السلاح الأوروبية، وتباركه واشنطن بصمتها، وتغطيه مؤسسات التمويل الدولي بخطاب “الانتقال المدني” و”الشراكة السياسية”.
الغاية ليست إنهاء الحرب، بل تفكيك مؤسسات الدولة وإعادة توزيع السلطة بما يخدم مصالح الخارج. كل ما يُسوّق تحت عناوين “الحكم التوافقي” و”المسار المدني” ليس سوى غلاف ناعم لمشروع استعمار صامت، يُدار بصفقات مشروطة ومؤتمرات مانحة وإعلام موجّه.
يُسوّق هذا المشروع الميليشيا كـ”طرف سياسي”، بينما يُجرّ السودان إلى تفاوض يُفرض على الدولة فيه التنازل عن أدوات دفاعها وسيادتها، والجلوس على قدم المساواة مع من ارتكب بحقها مجازر التطهير العرقي ودمّر بنيتها المدنية والعسكرية. ليست هذه عملية سلام، بل خارطة لتفكيك السودان وتجريده من أدوات القوة، بلا جيش يحمي حدوده ولا مؤسسات تحفظ قراره، ضمن منظومة حكم هشّة تُدار بالوكالة وتُزيّن بديباجات المجتمع المدني الغربي.
ما يُراد فرضه ليس وقفًا للقتال، بل إجهاض لفكرة الدولة المستقلة ذات القرار الحر. الهدف هو استبدال السيادة الوطنية بإدارة سياسية مصمّمة في غرف الاستخبارات والسفارات، تُنفَّذ محليًا بأيدي الميليشيات المأجورة.
النتيجة ليست انتقالًا ديمقراطيًا، بل انتقال مراقب ومحدود الصلاحيات، مرتهن لمشيئة الممولين، خاضع لشروط “الاستقرار” المصنوع في عواصم القرار. السودان هنا ليس طرفًا في نزاع داخلي، بل ضحية مشروع دولي لإعادة توزيع السلطة والثروة في المنطقة على نحو يُلغي فكرة السيادة الوطنية.
الإصرار على تصوير هذه الحرب بوصفها “نزاعًا أهليًا” هو مشاركة في أكبر عملية تزييف للواقع السياسي السوداني، ومساهمة مباشرة في شرعنة هذا العدوان المركب على بنية الدولة.
معركة الوعي والسيادة: لا تسوية على الدم ولا سلام يشبه الاحتلال
أمام هذا المشروع العدواني، تتحدد مسؤولية السودانيين في الداخل والخارج باعتبارها معركة وجودية تتجاوز الصراع على السلطة إلى معركة دفاع عن الكيان الوطني والسيادة، عبر خمس جبهات رئيسية:
1. رفض المسارات المفروضة من الخارج
كل “تسوية” تُفرض تحت تهديد السلاح أو ابتزاز التمويل ليست حوارًا سياسيًا، بل استسلام مغلّف بلغة السلام. إسقاط هذه المسارات هو إسقاط لمحاولات مصادرة القرار الوطني.
2. التمسك بالمؤسسة العسكرية كدرع للسيادة
رغم الانتقادات، يظل الجيش الوطني آخر حصون الدولة وصمام أمانها. تفكيك هذه المؤسسة ليس إصلاحًا، بل جزء من خطة ممنهجة لتحويل السودان إلى كيان هش بلا أدوات حماية ولا قرار مستقل.
3. خوض معركة الوعي وكسر الهيمنة الإعلامية
المعركة لا تُخاض بالسلاح وحده، بل في ميدان الرواية، حيث يُعاد تشكيل المشهد وتُصاغ شرعية الجريمة. المطلوب اليوم بناء إعلام وطني محترف، متعدد اللغات (العربية، الإنجليزية، الفرنسية، لغات القرن الأفريقي)، يخاطب الداخل والرأي العام الدولي ودوائر القرار مباشرة. هذا الإعلام يجب أن يكسر سرديات “الانتقال المدني” المصممة في مختبرات الخارج، ويعيد تعريف ما يجري بوصفه عدوانًا على السيادة لا نزاعًا أهليًا. إنها معركة الرواية… معركة الدفاع عن الحقيقة والسيادة.
4. تعبئة السودانيين في الخارج كأداة ضغط فعالة
تملك الجاليات السودانية في الخارج أدوات تأثير حقيقية في دوائر القرار الغربية ووسائل الإعلام. تحويل هذا التأثير من المشاهدة إلى الفعل السياسي والإعلامي ضرورة استراتيجية في معركة استعادة السيادة.
5. بناء جبهة عدالة مستقلة بعيدًا عن الانتقائية الغربية
لا يجوز ترك ملف الجرائم مرتهنًا لمؤسسات دولية مسيّسة تغض الطرف عن القتلة حين يكونون “شركاء اقتصاديين”. يجب السعي إلى مسارات قانونية بديلة، توثّق الجرائم وتلاحق الجناة، وفتح الملفات أمام جهات حقوقية مستقلة غير خاضعة لمعايير العدالة الانتقائية التي تختار ضحاياها وفق الجغرافيا أو لون البشرة.
الخاتمة: القرار سوداني… أو لا يكون
لأن السيادة لا تُستجدى… بل تُنتزع.
ما لم تدركه الإمارات، هذه الدولة الوظيفية المتضخمة بالمال، أنها تلعب بالنار وتخوض حربًا ليست حربها، بأموال ليست أموالها، في أرض لا تخصها، لخدمة مشروع يتجاوز فهمها. وهي واهمة إن ظنّت أن السودانيين سيتنازلون عن سيادتهم مقابل مؤتمرات أو حزم “إغاثة سياسية. “أما من يدير هذا المشروع، فعليه أن يدرك أن السودان لا يُشترى ولا يُخضع. السيادة لا تُمنح… بل تُنتزع، بإرادة شعب صلب لا يقبل الترويض.
السودان لا يقف على حافة الانهيار كما يروّج خطاب المانحين، بل يصمد في قلب معركة شرسة ضد واحدة من أخطر عمليات السطو السياسي واللوجستي في هذا القرن. هو يدفع ثمن تمسكه بقراره الوطني، بثمن جيش لم يُطوّع، وشعب لم ينكسر رغم القصف والنزوح والتجويع. لا صلح مع من قصف الأسواق وأحرق القرى، ولا حوار مع من استجلب المرتزقة وسفك الدماء، ولا وطن يُبنى على أنقاض المدن المحروقة. السودان سيكتب مستقبله بدماء أبنائه وإرادتهم، لا بأقلام المانحين ولا بخرائط الاستخبارات.
هذا ليس صراعًا داخليًا، بل مشروع غزو مغلّف بالدبلوماسية. والسودان لن يُستعمر مرتين. هذه معركة وجود، والسيادة لا تتجزأ.
هذه ليست معركة سياسية عابرة إنها.. معركة الكرامة
#القوات_المسلحة_السودانية_تمثلني
bitalmakki@gmail.com