منى أبوزيد
هناك فرق – بدل الدموع دم..!
*”يبدو أن الفوضى هي وحدها التي تجيد ترتيب المشهد بين جنرالات هذه الحرب، بينما يتعثر ضحاياها في البحث عن تفسير للواقع السريالي الذي باتوا يعيشون فيه”.. الكاتبة..!*
الخبر نص مستقل لا يحتاج من يقوم بتحليله إلى الاطلاع على أي نفي يصدر بشأنه، وفي السودان لا يمكنك أن تكون جزءاً من أي حكاية دون أن تكون متورطاً فيها، لكن ما راج من تصريحات أبو عاقلة كيكل الأخيرة أثبت أنه أراد أن يجعل من نفسه أحد الأبطال المختلفين في هذا المشهد الدموي، فقدم لنا من بورتسودان رواية لا يُمكن تفسيرها إلا على أنها محاولات للتخفيف من حدة الصورة القاتمة التي رسمها الإعلام لحميدتي قائد الدعم السريع..!
لكن كيكل لم يكن ليغادر هذه اللحظة السريالية دون أن يضع نفسه في موضع الناقد المنقذ، فهو لا يقف ضد حميدتي، بل يقدمه كضحية للتحديات السياسية والعسكرية التي فرضت عليه،بينما يقدم نفسه هو كضحية لتغبيش أدى إلى سوء تقديرات تسببت في موقفه العسكري السابق، ثم هنا نحن هنا..!
ما فعله كيكل ليس دفاعًا صريحاً ولا هجوماً مباشراً، بل هو ممارسة متقنة لفقه “التصريحات الرمادية”، حيث لا ترفع الغطاء تماماً ولا تكشف المستور كله، بل تهمس بنصف الحكاية وتترك للنخبة وللجمهور مهمة التفسير والتأويل..!
أنت لا تقول إن حميدتي لم يوجه بارتكاب تلك الفظائع والانتهاكات لكنك تقول إنه كان يبكي حين يسمع عنها، ومن يدري ربما في سيرك في السياسة السودانية قد تعدل هذه “البكية” شهادة حسن سير وسلوك..!
هل بكى حميدتي على تاريخه في دارفور من قبل، أم أن بكاءه على انتهاكات المليشيا في الخرطوم والجزيرة كان ردة فعل نفسية مؤقتة، تماماً كمن يشاهد مشهداً قاسياً في فيلم وثائقي وهو يأكل فشاره في صالة مكيفة، فيبكي من باب مؤازرة السياق الدرامي للأحداث..!
كيكل يعلم تماماً أنه لا يخاطب لجنة تحقيق، بل يخاطب ذاكرة مشوشة تبحث عن مشجب تُعلّق عليه معظم هذه الفوضى. وهو يقدم صورة مريحة للقطاع الذي يؤمن بالتفاوض من المجتمع “حميدتي لم يكن وحشاً، بل كان فقط مغلوباً على أمره”..!
ما يقوله كيكل لا يعبّر فقط عن مراجعة شخصية، بل يقدم رواية من الداخل تُضعف صورة الدعم السريع، وتكشف ما يُفترض أنه “وجه حميدتي الحقيقي”، لكن في الوقت نفسه لا تخلو تلك الرواية من حسابات السلطة والسياسة..!
كيكل الآن قائد كيان عسكري يحتاج إلى شرعية، وإلى خطاب أخلاقي، وإلى قادة يمكنهم الوقوف أمام الكاميرات والقول “كنا هناك وأخرجتنا ضمائرنا لأننا قد اكتشفنا زيف شعارات المليشيا وأدركنا الحقيقة”..!
ربما أراد الرجل أن يمنح نفسه دور “المُنشق النبيل” الذي رأى الحقيقة وغادر قبل أن تتلوث يداه أكثر، وربما كان يهيء نفسه لدور جديد في مرحلة ما بعد الحرب، باعتباره شاهداً مهماً على ما جرى داخل المطبخ المغلق لقوات الدعم السريع..!
وربما – وهذا هو الأرجح – كان يؤدي مشهداً ضمن سيناريو مرسوم سلفاً، تمهيداً لمفاوضات بين الجيش والمليشيا، قد تنتهي بصيغة يخرج عبرها حميدتي أو من يقوم مقامه من المشهد نادماً، نحيلاً من كثرة الثوم وباكياً على مغامرته التي انتهت بفشله في السيطرة على انتهاكات جنوده، بعد أن تأكد له أن النصر العسكري مستحيل!.
munaabuzaid2@gmail.com