كبسولة وعي
هندسة الإدراك في زمن الحرب
الإعلام كسلاح استراتيجي ضد السودان (1)
بقلم صباح المكي
*تمهيد: الإعلام كسلاح في الحرب الهجينة*
في زمن الحروب الهجينة، لم تعد الحقيقة تُغتال بالرصاص، بل تُصفّى بالمعنى. وفي الحالة السودانية، انتقلت المعركة من الميدان إلى الوعي، حيث يُعاد تشكيل الإدراك الجمعي داخل مختبرات تضليل مموّلة، تستبدل الوقائع بسرديات مصمّمة، والعدوان بلغة “السلام”.
لم نعد أمام انحياز إعلامي عابر، بل أمام مشروع هندسة نفسية–سياسية، يستند إلى نماذج علمية طُوّرت لفهم الجماهير، ثم أُعيد توظيفها لتفكيك وعيهم وتوجيه إدراكهم. لم تُستخدم هذه النماذج لقراءة الواقع، بل للهيمنة عليه: بتشويه رموز السيادة، وتجريد الجيش من رمزيته، وإعادة تعريف العدو والحليف عبر مصطلحات ناعمة ومفاهيم مصمّمة بعناية.
يقود هذا المشروع جهاز إعلامي تموّله أبوظبي وتديره بأدوات الجيل الخامس: حيث يُسوَّق العدوان كـ”مبادرة سلام”، وتُقدَّم الخيانة كـ”حياد مهني”، ويُعاد إنتاج الواقع من دون إطلاق رصاصة.
يهدف هذا المقال إلى تفكيك هذه المنظومة من خلال ثلاثة محاور:
1. استعراض النظريات الإعلامية التي تُستخدم كأسلحة إدراكية
2. تحليل أدوات التضليل المُطبّقة على الحالة السودانية
3. ربط تلك الأدوات بأمثلة حيّة من الحرب الإعلامية الجارية
*أدوات التضليل الإعلامي: تفكيك الإدراك عبر 4 مسارات ناعمة*
في الحرب النفسية والإعلامية، لا يُستخدم الإعلام كمنصة لنقل الوقائع، بل يُفعَّل كسلاح خفي لإعادة تشكيل الإدراك العام، حيث تتحوّل الشاشة إلى مسرح لهندسة المفاهيم وإعادة تعريف الواقع.
*أولاً: التلاعب بالمحتوى والمصطلح*: يُعاد تقديم المضمون بشكل انتقائي يخدم سردية الميليشيا؛ إذ تُعطى الكاميرا لسردهم، وتُقصى رواية الدولة، مما يصنع وهمًا زائفًا بـ”الحياد”. ويتحوّل المذيع إلى طرف في الصراع، يمرّر رأيه الشخصي كحقائق، خصوصًا في القنوات المموَّلة من أبوظبي. كما تُستخدم مصطلحات مصنوعة بعناية – مثل “الطرفان”، “الصراع الداخلي”، “المكون العسكري” – لنزع الطبيعة العدوانية عن التمرد، وتفريغ مفاهيم السيادة من دلالتها السياسية.
*ثانياً: التوجيه النفسي والتشويش الإدراكي*:تُكرّر الأكاذيب والمبالغات حتى تترسخ في الوعي الجمعي، وتُضخّم تحركات الميليشيا كـ”انتصارات حاسمة”، بينما تُهمَّش إنجازات الجيش وتُختزل إلى “تحركات محدودة”. في المقابل، يُغرق الفضاء الإخباري بسيل من الأخبار غير المرتبطة، لصرف انتباه المتلقي عن المشهد المركزي.
*ثالثاً: التلاعب بالصورة والعنوان*:تُستَخدم الصور كمصيدة بصرية، حيث تُنتزع من سياقها الزمني أو المكاني وتُنسب للسودان، مما يغذي الانطباع بالهزيمة أو القمع. وتُرفَق بعناوين مثيرة من قبيل “الجيش يقصف النازحين”، رغم أن المضمون يفتقر إلى أي دليل، مما يترك العنوان يقود وعي المتلقي ويوجه انفعاله.
*رابعاً: التوجيه عبر الشخصيات والحوار*: يتم اختيار ضيوف ضعفاء أو غير مؤهلين لتمثيل الدولة، فتبدو الرواية الوطنية باهتة أو متناقضة. كما تُفرغ الحوارات من جوهرها الحقيقي، ويُدفع بها إلى نقاشات جانبية تُربك الجمهور وتطمس لبّ القضية. والأسوأ، حين يُقلب ميزان الأخلاق: تُقدَّم الميليشيا كضحايا، ويُشوَّه الجيش ليبدو كقوة قمعية، ما يُنتج تباسًا أخلاقيًا خطيرًا في وعي المتلقّي.
*خلاصة هذا المحور:* لا يهدف هذا التضليل إلى الإقناع بقدر ما يسعى إلى زعزعة الثقة، وتفكيك المعنى، وترويض الوعي ليتقبل الانهيار كمشهد طبيعي.
*كيف تحوّلت نظريات الإعلام إلى أدوات لحرب الوعي*
*نظرية الطلقة السحرية (Magic Bullet Theory): الصدمة أولاً… والسردية لاحقاً*
تُعرف هذه النظرية الكلاسيكية أيضاً باسم نظرية الإبرة تحت الجلد (The Hypodermic Needle Theory)، وتفترض أن الرسالة الإعلامية تُحقَن مباشرة في وعي الجمهور، كما تُحقن الإبرة تحت الجلد، دون مقاومة نقدية.
في الحالة السودانية، فُعّلت هذه النظرية منذ الساعات الأولى، من خلال بث مكثّف لمقاطع مفبركة تُظهر جنوداً ينهبون أو يفرّون أو يُهانون. بعضها قديم، وبعضها من خارج مسرح العمليات، لكن توقيت نشرها كان محسوباً لإحداث الأثر: ضرب معنويات الجيش قبل أي اشتباك فعلي.
*أدوات التضليل المواكبة*:
●الانتقائية المتحيزة: عرض مشهد واحد وكأنه يعكس الواقع بأكمله
● العناوين المهوّلة: مثل “كارثة”،
“انهيار”، دون أي مصدر موثق،
● تشتيت الانتباه عن الفاعل: الحديث عن الدمار دون ذكر من سببه
● الشائعات كقنابل إدراكية: “مقتل قائد”، “انشقاق لواء”، “استسلام”… بلا دليل
الهدف لم يكن فقط تشويه الحقيقة، بل تسديد ضربة إدراكية أولى تُفرغ الجيش من رمزيته. فقبل أن يُهاجم ميدانيًا، كان قد خُصم رمزيًا من وجدان الناس. إنها الحرب التي تُطلق فيها الصورة قبل الرصاصة، وتصيب المعنويات قبل المواقع.
*نظرية الإطار الإعلامي (Framing Theory): حين تُعاد صياغة المعركة بلغة ناعمة*
لا تكمُن سلطة الإعلام في ما يعرضه فقط، بل في كيف يعرضه تفترض نظرية الإطار الإعلامي أن المعنى لا يُقدَّم كما هو، بل يُعاد تشكيله من خلال زاوية التقديم، وانتقاء المفردات، وترتيب السرد، ليُنتج واقعاً إعلامياً بديلاً يخدم أجندة المرسل. في الحالة السودانية، تم تجريد العدوان من طبيعته الخارجية، وتحويل الحرب إلى مجرد “نزاع داخلي” بين “قوى متصارعة”، ما أتاح إعادة تأهيل الميليشيا كـ”جهة فاعلة” أو “قوة أمنية”، في الوقت الذي أُعيد فيه تأطير الجيش الوطني كمجرد “ذراع للنظام السابق”.
*أدوات التضليل المرتبطة بهذه النظرية*:
● مفردات الإدانة الانتقائية: “قصف الجيش” مقابل “ردّت قوات الدعم السريع”
● مصطلحات مصنوعة: “الطرف الثالث”، “حل شامل”، “طرفا النزاع”
● الخلط بين الرأي والخبر: مراسل يبكي على الهواء، أو صحفي يعلّق سياسياً داخل تقرير ميداني
● إدماج الشائعات داخل التغطية: مثل “مصادر تؤكد وجود مفاوضات”، لتأطير العدوان كأزمة تفاوضية
لم تُزوّر الوقائع، بل أُعيد ترتيبها وتغليفها بلغة محايدة مضللة. فبدل أن يُدان العدوان، يُقدَّم كحل. وبدل أن يُحتفى بالصمود، يُؤطَّر كتعنّت. وهكذا، يتم تسويق الحرب على السودان كمسار “تسوية”، لا كعدوان خارجي مسنود.
*خاتمة: من كسر المعنى إلى احتلال الوعي*
ما قُدّم في هذا الجزء لا يندرج ضمن سرد نظري مجرد، بل هو كشف أولي لبنية تضليل مُمنهج، تتسلل فيه الكاميرا كسلاح رمزي، ويتحوّل المصطلح إلى أداة قصف ناعم، ويُستعمل الإطار الإعلامي لإعادة هندسة الإدراك الجمعي للسودانيين.
لقد لمسنا كيف تُحوّل النشرات إلى غرف عمليات ناعمة، تُصاغ فيها المفاهيم بعبارات مزيّفة؛ فيُعاد توصيف العدوان كـ”مبادرة سلام”، ويُمنح التفكيك الوطني غلافًا “مدنيًا”، ويُجرَّم الدفاع عن الدولة تحت شعارات مصنّعة من “الحياد” و”التوازن”.
لكن ما طُرح حتى الآن ليس سوى الطلقة الأولى في حرب الإدراك.
في الجزء الثاني، ننتقل من هندسة السرد إلى برمجة الوعي، ومن الصوت المقموع في اللولب الصامت، إلى الوعي المُعاد تشكيله عبر الغرس الثقافي، والبروباغندا الرمادية، وغسيل الدماغ المؤدلج.
سنكشف كيف تُبنى الهزيمة عبر التكرار، ويُنتج الإذعان كمنطق، وتُصاغ الأكاذيب كحقائق لا تقبل النقاش.
لأن من لا يعرف كيف خُدِع… سيظل يظن أن استسلامه كان اختيارًا حُرًا.
bitalmakki@gmail.com