الإدارة الأهلية: حلّها ضرورة أم إصلاحها واجب؟!!  حرّر الصياد الحمادي وهرب الناظر الجنجويدي إلى نيالا

حديث السبت

يوسف عبدالمنان

الإدارة الأهلية: حلّها ضرورة أم إصلاحها واجب؟!!
حرّر الصياد الحمادي وهرب الناظر الجنجويدي إلى نيالا
الجامعة العربية ماتت قديمًا وهذه أشباحها وصورها!!

بطولات الأمير عبد القادر وحّدت مشاعر أبناء قبيلة حمر…

صورة أكثر بشاعة لناظر عموم المسيرية، مختار بابو نمر…

المال والسلاح الإماراتي شرّد نصف الشعب السوداني..

########

صورة ناطقة، معبّرة عن الفراسة والرجولة والنخوة والوفاء، جسّدها مظهر الأمير عبد القادر منعم منصور، وهو مستلقيًا على ذراعه الأيمن، ينظر إليه الجلاد بعين المتوثب للانقضاض على فارسٍ رفض، بكبرياء وشجاعة نادرة، أن يسجل كلمة واحدة لصالح الدعم السريع أو ضد القوات المسلحة. فضّل الأمير الموت واقفًا على سوء الخاتمة، رغم الضغوط التي انهالت عليه من “الأشاوس”، وهم يختطفون طفلًا رضيعًا من بين أحضان أمه، حفيدة الأمير عبد القادر. وطلبوا من الأم أن تفدي فلذة كبدها بالحلي الذهبية التي أخفتها عن “الأشاوس”، ففاضت مشاعرها، واختارت أن تفدي طفلها بذهب قد يأتي غدًا.

بطولات الأمير عبد القادر وحّدت مشاعر أبناء قبيلة حمر، ومن كان ينازعه الأمس أصبح اليوم أقرب إليه من حبل الوريد:
“إذا احتربت يومًا وسالت دماؤها
تذكّرت القربى وفاضت دموعها”

وإذا كانت صورة الأمير عبد القادر تجسد المروءة والشهامة والفروسية والقيم، فإن هناك صورًا تمثل العار في وجه الإدارة الأهلية، أي الوجه القاتم الذي جسّدته صورة الناظر الهادي عيسى دبكة، ناظر عموم البني هلبة، وهو يلهث وراء عبد الرحيم حميدتي، ينظر إلى جيوبه العميقة، ويقود أنضر فرسان البني هلبة – هذه القبيلة المجاهدة الكريمة التي تمثل قيمة كبيرة في السودان – إلى محرقة الحرب.

الهادي دبكة، الذي ورث الإدارة من رجال كبار أنجبوا قيادات صغار، قال إنهم وضعوا كل آمالهم في آل دقلو، متناسيًا أنه سليل آل دبكة. وصورة أخرى للناظر محمود موسى مادبو، وهو يقدّم فروض الولاء والطاعة لحميدتي، ويتنازل عن كل تاريخ آل مادبو لتاجر بندقية – وتاجر حمير سابق – ويهدد أهل السودان بطي الخرطوم في ساعات إن تمّ المساس بمحمد حمدان دقلو.

وصورة أكثر بشاعة لناظر عموم المسيرية، مختار بابو نمر، وهو يسأل عبدالرحمن جمعة، تاجر القش في سوق الضعين: “نقول شنو؟”

فهل أصبح حل الإدارة الأهلية – بعد ما حدث في حرب آل دقلو على السودان – قرارًا شجاعًا ودواءً مرًّا لبعض مشاكل البلاد؟

لقد ظلت الإدارة الأهلية أداة طيّعة في يد الحكومات، تستخدمها كيف شاءت، وأصبحت في النهاية بضاعة مزجاة في سوق النخاسة، لمن يدفع أكثر. لم تتورّع بعض الإدارات من بيع كل شيء من أجل شيء، وشاركت في الحرب على أهل السودان، ركبت العربات المنهوبة، وأكلت مال السُّحت، وشربت من ريع اللصوص، وتعرت من القيم.

ومع ذلك، هناك رجال في الإدارة الأهلية رفضوا البيع والشراء، منهم عبد القادر منعم منصور، ومنهم الناظر ميرغني حسين، ناظر عموم البديرية، الذي وقف في وجه إرادة حزب الأمة، الذي سامه فضل الله برمة بدراهم إماراتية، لكنه ظل عصيًا على الإغراء، وظل مساندًا للجيش، رافضًا لانتهاكات الميليشيا في حق أهله البديرية.

2

لكن، كل أمراء ومكوك وسلاطين النوبة استعصوا على مال الإمارات، إلا ثلاثة فقط: خميس جلاب، كوكو إدريس، وعبد الباقي قرفة، ورابعهم مسلاتي “مُتنوب”. وللدكتور حامد البشير توصيفٌ لنوبة “تبقّروا” أي صاروا بقارة، و”بقارة تنوبوا” أي صاروا نوبة. أما عبد العزيز الحلو فقد صار “نبّاوي” بالنضال والانحياز لقضايا النوبة.

أمراء وقيادات جبال النوبة رفضوا أن يصبحوا مطيّة في يد آل دقلو، رغم تدفق المال. أما قبائل العطاوة الثلاث (الحوازمة، المسيرية، الرزيقات)، فقد اختارت قيادتها الأهلية الانخراط في مشروع دولة الإمارات.

على النقيض من موقف عبد القادر منعم منصور، الذي رفض مغادرة النهود واختار الموت في دار حمر، هرب ناظر الحوازمة الهادي أسوسه، ومعه عدد من العُمد، وتركوا المشايخ. وحين وصل فرسان الصياد الحمادي، لم يجدوا إلا أثر الناظر الذي فرّ وترك بيته وعشيرته لينجو ببدنه، مع أن القوات المسلحة كانت ستغفر له ما أقدم عليه من تحشيد، ودعم للحرب على الجيش، وتورطه في قتل أبناء عشيرته، واستلامه للمال المنهوب.

غادر الناظر “البوكو” إلى نيالا بحثًا عن حماية عبد الرحيم دقلو، ولكن يد الصياد الطويلة لن تقف عند نيالا البحير، وحينها لن يكون أمام الناظر ورهطه إلا التوجّه إلى محافظة “أتيا” في تشاد، علّه يحل ضيفًا على حوازمة تشاد، يوانسهم في وحشة الليالي الطويلة.

3

لم يعد أمام الإدارة الأهلية في السودان غير “إعادة ضبط المصنع” وتنظيف جسدها من أوشاب التمرد وخيانة جماهير الشعب السوداني، الذي قال كلمته في التمرد منذ أول أيام الحرب.

لكن زعماء الإدارة الأهلية – خاصة من كردفان ودارفور وبعض من قيادة الجموعية والجوامعة – وقفوا صف القاتل، ودمّروا ديارهم بأيديهم. فهل يمكن إصلاح الإدارة الأهلية بالقوانين؟

الحكومة الحالية غير مؤهلة مطلقًا لإصلاح الإدارة الأهلية ولا الخدمة المدنية. يتمسك الناس بها لقناعتهم بأنها سلطة أمر واقع، ولم تَهب في معركة الدفاع عن البلاد حتى هذه اللحظة، رغم ترددها في الحسم.

رئيسها، الفريق البرهان، ظل صامدًا في وجه العواصف، شجاعًا في قتال التمرد، لكنه كثير الحسابات، تتنازعه الرغبة في الغرب والتوجس من الشرق. ورغم خيانة الإدارة الأهلية، لم تعتقل الحكومة حتى الآن قياديًا واحدًا منها، بل تتودد إليهم كما تتودد لصديق ودعة، الذي يُطلق عليه “سلطانًا” وهو لا يملك من السلطة معشار عمدة في شمال دارفور!

4

قبل رحيل الشاعر نزار قباني بعشر سنوات، نعى للأمة العربية حالها في قصيدته الشهيرة: “متى يعلنون وفاة العرب؟”، وتردد صدى القصيدة من طنجة إلى الكويت، ومن الخرطوم إلى تونس.

نحن في السودان، ما زلنا نحتفي ببيانات جامعة الدول العربية، التي لو كانت على قيد الحياة فعلاً، لأرغمت دولة الإمارات على وقف عدوانها على الشعب السوداني، ذلك العدوان الذي استهدف تدمير البنى التحتية من محطات كهرباء ومستودعات وقود، وتعطيل المطارات بطائرات صينية مسيّرة.

الصين، التي تنكرت للشعب السوداني، تمد الميليشيا بالطائرات المسيّرة وربما بالإحداثيات. دُمّرت مصافي النفط في شمال الخرطوم والأبيض، والطيران المسيّر قادم من الصين، والدول العربية لا تقيم وزنًا لمن لا يملك النفط.

المال الإماراتي والسلاح الإماراتي شرّد نصف الشعب السوداني، والنصف الآخر يراقب الموت في السماء. وإذا كانت قمة بغداد قد رفضت مشاركة السودان على مستوى الرئيس، فإنها قمة تُراد للمسح على الصوف، وخداع السودان ببيانات ميتة، كحال “موت العرب”.

دولة الإمارات، التي لا تعدو أن تكون خزنة مال وطلمبة وقود، تسعى للقضاء على شعب له تاريخ عريق، أسهم في الأدب العربي والثقافة العربية، وحتى كرة القدم الأفريقية.

لا تدعم الخرطوم اليوم أي عاصمة عربية دعمًا حقيقيًا، حتى دولة قطر كفت يدها، والجزائر تعيش محنة مشابهة من عدوان إماراتي. بقية الدول العربية تدور في فلك أبوظبي، طمعًا في المال، باستثناء قطر والسعودية. أما السعودية، فهي أكثر عداوة من الإمارات، ولكنها عداوة تتدثر بثياب الحياد، كذِبًا واختلاقًا.

5

نجح سلفاكير ميارديت في الخروج من مؤامرة كبرى سعت للإطاحة به بعد أن امتدت إليها يد الإمارات الملوّثة بالدماء. تم تجريده من رجال مخلصين له، مثل توت قلواك وآخرين، وأُبعدوا عن المشهد.

يبقى سلفاكير بحاجة إلى عقلانية سياسية في التعاطي مع ملف قبيلة النوير، الذي يلعب فيه رياك مشار دورًا محوريًا. حاول سلفاكير صناعة بديل لمشار، لكنه فشل بسبب سوء الاختيارات، وتمسكه بأمثال تعبان دينق، وهو شخصية رمادية.

لو وضع سلفاكير ثقته في مشار، وتناغم معه، ووفى بالتزاماته، لعاشت جوبا في سلام. لكن سلفاكير، الذي شاخ وتعب، لم يعد قادرًا على الفعل الإيجابي، وتنتظره مشاكل تمسك برقاب أخرى.
وقد خسر سلفاكير الشعب السوداني عندما باع التاريخ وشائج الرحم بالمال الإماراتي.