صباح المكي تكتب :ناس الرصّة والمنصّة

تحت ضل الدليبة
…ناس الرصّة والمنصّة

صباح المكى

قرأتُ لك: فنُّ الحرب

في زمنٍ يختلط فيه غبار المعركة بدخان التضليل، يصبح كتابٌ مثل *”فنّ الحرب”* للصيني سون تزو، أكثر من مجرد نصّ عتيق عن الحروب القديمة؛ بل مرآة تُطلّ علينا من عمق القرون لتكشف ملامح اللحظة الراهنة، وكأن الكاتب يجلس بيننا، يُدوّن ما نراه ونعيشه اليوم في السودان.

أول ما قاله سون تزو: *”كلّ الحروب تقوم على الخداع.”*
خدعتني هذه العبارة ببساطتها، لكنها فجّرت داخلي سؤالًا: كم كذبة صُنعت لتصبح حقيقة؟ كم رواية كُرّرت حتى صارت واقعًا في أذهان الناس؟ في السودان، لم يُطلق العدو رصاصه فقط، بل أطلق رواياتٍ مشوّهة، غيّرت أسماء القاتل والضحية، ومسحت خطوط الحق من الخريطة.

ثم يُضيف سون تزو: *”الجيش هو عماد الدولة، وقيامها أو سقوطها مرهونٌ به.”*
فكّرت في من يسعون اليوم لتجريد الجيش السوداني من رمزيته، لتقديمه كطرف في “نزاع داخلي” بدلاً من كونه سدًّا منيعًا أمام التفكيك، ومن يسعون لوضعه على قدم المساواة مع ميليشيا وُلدت من رحم الفوضى وتغذّت على المال الأجنبي والسلاح المهرّب.
سون تزو ما كان في السودان، لكنه فهم من قرون أن انهيار الجيوش هو بداية انهيار الأوطان.

ومن أعمق العبارات:
*”المعركة تُحسم قبل أن تبدأ، في التخطيط والتكتيك، لا في ميدان القتال.”*
هنا مربط الفرس. هناك من يقاتلون السودان في ساحاتٍ غير مرئية: في الإعلام، في المنصات الدولية، في الدبلوماسية الموجّهة، وفي مسلسلات بثّ الوهم عبر لهجاتنا. الحرب لم تبدأ حين أُطلقت الطلقة الأولى، بل حين تسلّل التشكيك، وبدأ البعض يُفرغ الصمود من مضمونه، ويُروّج للاستسلام المغلّف باسم “السلام”.

ثم تأتي الجوهرة:
*”إذا عرفتَ عدوك وعرفتَ نفسك، لن تخشَ مئة معركة.”*
العدو معروف: من يموّل، من يزوّد بالسلاح، من يروّج للرواية المسمومة، ومن يجلس على طاولة الحوار حاملاً خنجرًا خلف ظهره.
أما نحن، فمعرفتنا بأنفسنا تبدأ باستعادة ثقتنا بقضيتنا، بجنودنا، وبوعينا الجمعي… أن نعرف من نحن، كي لا يُعاد تعريفنا من الخارج.

ولعل أعظم دروس *”فنّ الحرب”* لا تأتي من سطور المعارك، بل من فهم الإنسان نفسه: أن تعرف متى تقاتل، ومتى تنسحب لتنجو، ومتى تصمت لتخطط.
وفي بلدٍ كالسودان، نحن لا نخوض حربًا واحدة، بل نُجرّ إلى ألف جبهة:
نُقاتل على الأرض، ونُطعن في الإعلام، ونُشكّك في أنفسنا من على منصّات يديرها غيرنا.

لكننا، رغم كل ذلك، نملك ما لا يُترجم في الكتب:
نملك *الحدس الشعبي، والذاكرة المقاومة، والزول البسيط سيد الرصّة والمنصّة*، الذي يعرف الحقيقة من بين السطور، ولو كانت ملفوفة ببروباغندا ناعمة.

*فنّ الحرب*، إذًا، ليس وصفة للقتال، بل *دعوة للاستفاقة*: أن ندرك من نحن، من عدونا، وما هي الجبهات التي يُراد لنا أن نغفل عنها.

ولعل أولى هذه الجبهات… *هي وعيك أنت.*
ستنتهي الحروب، لكن الكلمات التي توقظ الوعي تبقى.
فالظل ليس فقط “ضل الدليبة”… بل قد يكون ظل وعي، وظل مواقف، وظل أناسٍ قلوبهم على الوطن.
اقعدوا عافية… ولقدّام.