ضل الدليبة صباح المكي إعادة تدوير الوجوه السياسية: دوامة الانسداد في السودان

ضل الدليبة
صباح المكي
إعادة تدوير الوجوه السياسية: دوامة الانسداد في السودان

في الأنظمة السياسية الحيّة، يُعد تجديد القيادات سمةً من سمات التطور المؤسسي والديناميكية الديمقراطية. أما في السودان، فقد تحوّلت هذه الآلية إلى دائرة مفرغة، يُعاد فيها إنتاج نفس الوجوه رغم إخفاقها المزمن. إنها ليست مجرد خلل إداري، بل انعكاس لأزمة عميقة في بنية النظام، حيث تغيب المحاسبة، وتنعدم أدوات التجديد، ويُحتكر القرار في أيدي من فقدوا الأهلية السياسية.

*لماذا يُعاد تدوير السياسيين؟*

عدة عوامل تفسّر هذه الظاهرة:

* *ضعف المؤسسات وغياب الذاكرة السياسية: تُستبدل معايير الكفاءة بشبكات الولاء، وتُهمّش فكرة التقييم لصالح الاستمرارية الشكلية. وفي غياب المؤسسات، تبقى الأسماء هي الثابت الوحيد. وكأنها قدر لا فكاك منه.

* البيئة الطاردة للكفاءات : في السودان، لا يُقصى المؤهلون لقلة عددهم، بل لأن المناخ السياسي لا يستوعبهم. أمام انسداد الأفق، تهاجر العقول الجادة، وتثبت جدارتها خارج البلاد، بينما يُعاد تقديم شخصيات استُهلكت سياسيًا، تحت مسميات مثل “الخبرة” أو “التوافق الوطني”. هكذا، يصبح المجرّب الفاشل هو الخيار المريح، بينما يُستبعد صاحب الرؤية، لا لشيء سوى لأنه يرفض الانخراط في منظومة المجاملات السياسية الفاسدة.

* النفوذ الإقليمي والدولي: بعض القوى الخارجية التي تتدخل في الشأن السوداني تفضّل التعامل مع وجوه مألوفة لها، حتى لو ثبت فشلها، لأنها تضمن استمرارية مصالحها ولا تُفاجَأ بمواقف سيادية أو استقلالية غير متوقعة.

* *ثقافة الولاء فوق الكفاءة: السياسة السودانية ما زالت تُمارس ضمن منطق الانتماءات الضيقة، لا المشاريع الوطنية. ونتيجة لذلك، تتكرّس شبكات مغلقة تُفرز ذاتها باستمرار.

*النتائج المترتبة على هذا النمط*

* *ترسيخ الفشل المؤسسي: حين تُعاد إنتاج الأدوات نفسها، تُكرَّس الأزمات ذاتها. فالدوائر المغلقة لا تُنتج حلولًا، بل تعيد ترتيب المأساة.

* *إحباط الأجيال الجديدة : يشعر الشباب أن الفضاء السياسي مغلق، وأن الإبداع غير مُرحّب به. وهذا يدفع كثيرين إلى العزوف أو الراديكالية، بدل المشاركة البناءة.

* انهيار الثقة العامة: حين يُكافأ من قادوا البلاد إلى الانهيار، وتُقصى الطاقات النزيهة، تنهار فكرة العدالة السياسية، ويتحوّل الأمل إلى قناعة بأن التغيير السلمي بلا جدوى.

* جمود الحياة العامة : تتحوّل السياسة إلى واجهة رتيبة، تتكرّر فيها الخطابات دون أثر ملموس، وتنفصل تمامًا عن واقع الناس.

* اختزال السياسة في الامتيازات: في السودان، لم تعد السياسة مرتبطة بالخدمة العامة، بل تحوّلت إلى وسيلة لتحقيق المنافع الخاصة. كثير من الداخلين إلى المجال السياسي لا يملكون مشروعًا وطنيًا، بل يسعون إلى مواقع النفوذ بحثًا عن الامتيازات. و”القطط السمان” – رموز الفساد والتمكين – ما زالت محصنة، فلا تُقدَّم إلى محاكمات، ولا تُسأل عن ثرواتها أو جرائمها، بل تواصل التغوّل على المجتمع، وتعيش فوق الدولة لا داخلها. هذا التشوّه جعل من المناصب أدوات للإثراء السريع، وكرّس التنافس على السلطة بوصفها غنيمة، لا مسؤولية.

*النتيجة؟* دولة تُعاني من حروب، وفشل اقتصادي، وتشظٍّ اجتماعي، ودائرة مفرغة تُسحب السياسة فيها من مجال التغيير إلى مسرح التكرار.

*الخلاصة*

السودان يحتاج إلى لحظة وعي وطني تُعيد تعريف السياسة باعتبارها مسؤولية تُمارس من أجل الوطن، لا غنيمة تُقتنص لمصالح ضيقة؛ ومجالًا للإصلاح الجاد، لا ساحة لتصفية الحسابات. وللكفاءات قبل المحاصصات، ولمشروع الدولة قبل صفقات الترضيات، ولإرادةٍ تُقصي الفساد بدل أن تتعايش معه أو تغضّ الطرف عنه.

إنها لحظة تبدأ بالاعتراف، وتنتهي بإرادة حقيقية تفتح الطريق لمن يملكون الرؤية والشجاعة.

لكن وسط هذا الدوران المُنهك، لا تزال في الذاكرة الوطنية ومضات من أملٍ وعنادٍ جميلين.
فالسودان ليس أرضًا عقيمة، بل وطنٌ يتنفس رغم كل هذا الرماد، وحلمٌ ينتظر من يشعل جمرة الإصلاح.
وطنٌ قادر على النهوض متى ما استعاد شعبه زمام المبادرة، وتوقّف عن انتظار المُجرّب ومن أخفق لصنع المعجزة.

*فالظل ليس فقط “ضل الدليبة”… بل ظل وعيٍ يُقاوم الغفلة، وظل وجوهٍ لم تخن، وظل من يوقنون أن الغد لا يُمنَح، بل يُنتزع.*

*اقعدوا عافية… ولقدّام.*

bitalmakki@gmail.com