ودع الدنيا في مستشفى عطبرة …
أحمد شاويش.. (مات عطر الصندل )..
الموت يغيب الفنان احمد شاويش بعد صراع مع المرض
رحيل شاويش يطوي صفحة فنان عاش للفن لا للضوء..
من عطبرة إلى أم درمان ثم إلى الإذاعة… رحلة صوت تشكّل بهدوء
لم يكن باحثاً عن الشهرة ولا نجماً عابراً بل صاحب مشروع فني صادق
الأغنية التى فتحت له أبواب العالمية وأعلنت قدوم صوت استثنائي
“تعالي معاي”… الأغنية التي جمعت الشعر والحلم والصوت الدافئ في آن
حكاية أمسية في الحصاحيصا تروي وفاء فنانٍ لا يحمل إلا عوده وقلبه
بين المسلسلات الإذاعية واللحن… شاويش يسكن الدراما بصوته وأدائه
غادر الدنيا تاركاً خلفه فناً يشبه الماء… صافياً وبعيداً عن التصنع
الكرامة :رحمة عبدالمنعم
رحل أمس السبت بمدينة عطبرة، الفنان أحمد شاويش، ولم يكن ضوءاً عابراً في سماء الغناء، بل ظلاً وارفاً لشجرة إبداع نمت في الظل، وسقت أغصانها من نبع الصدق والموهبة الخالصة، لم يكن يلهث خلف الشهرة، ولم يدخل مضمار المنافسة كما يفعل سائر المطربين؛ كان يغني ليشفي روحه، ويعزف ليبوح بما لا يُقال.
من عطبرة إلى أم درمان، من خشبة المعهد العالي للموسيقى والمسرح إلى أثير الإذاعة، ثم إلى قلوب المستمعين، خطّ شاويش مساراً خاصاً لا يشبه إلا نفسه.
يوم حزين
في يومٍ حزين، غادر الساحة الفنية السودانية فنانٌ استثنائي ، فقد توفي الفنان والمخرج الإذاعي أحمد شاويش، امس السبت، بمستشفى عطبرة، بعد صراعٍ طويل مع المرض، تاركاً وراءه مشروعاً فنياً خاصاً، لم يسعَ به إلى الشهرة، بقدر ما اجتهد في أن يصوغ لنفسه صوتاً وهوية.
شاويش لم يكن فناناً عادياً، كان صوتاً داخلياً يهمس للعالم من عزلته، وكان حالة فنية نادرة لا تشبه سواها، ولد في مدينة عطبرة، التي حملت ملامحها في صوته، ثم انتقل لاحقاً إلى مدينة أم درمان، حيث درس الموسيقى بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح، هناك تشكلت ملامح مشروعه الفني، وهناك بدأ رحلة طويلة مع الموسيقى، والإخراج الإذاعي، والغناء.
رغم تنقله بين قاعات الدرس ومراكز الشباب، لم يكن شاويش باحثاً عن الشهرة كما كان يصفه بعض مجايليه؛ بل ظلَّ بعيداً عن الأضواء، مقلاً في الظهور، متأنياً في الإنتاج، منصرفاً إلى صياغة عالمه الخاص ،كان فناناً عميقاً، يكتب ويغني ويلحن، ويجسد الكلمات وكأنها تتنفس ،من مركز شباب السجانة، الذي دخل إليه في النصف الثاني من السبعينات، حمل معه عوداً وصوتاً فيه شبه من ابوعركي البخيت، لكنه لم يكن مقلِّداً ،بل كان يشتغل على صوته كما النحات على خامته، يطوّعه ليغدو أداة لتجسيد المعاني.
“عطر الصندل”
وانطلقت تجربة شاويش الغنائية بأغنية عطر الصندل، التي كانت بمثابة إعلان أولي عن صوت لا يشبه أصوات الآخرين ،كانت الأغنية جواز عبوره إلى العالمية، أعقبتها أعمال راسخة في ذاكرة جمهوره المخلص، منها بتذكرك وأحبك يا طفلي التي كتبها تيمناً بفتاته الصغيرة ،كما غنى: ما جاييك، كتاب الريد، قسوة الظروف، وصف الجميل، فجر الأمل، صباح العيد، أهل البلد، مليون عصفور، وغصباً عني مش على كيفي أكون مجنونك، وهي من كلماته.
لكن الأغنية التي ستظل لصيقةً بصورته الفنية هي تعالي معاي، من كلمات الشاعر محمد نجيب محمد علي، والتي يقول مطلعها: (تعالي معاي عشان نرسم خريطة جديدة للأيام..يكون فيها الفرح شارع وتبقى العاصمة الأحلام..ونرفع لافتات الشوق).
أداء شاويش لهذه الأغنية لم يكن غناءً فحسب، بل كان نوعاً من البوح، وقد علّق الناقد الفني عبد الله محمد عبد الله قائلاً: “من يستمع بتأنٍ للفنان أحمد شاويش وهو يؤدي تعالي معاي، ستأخذه الدهشة، وستدور بذهنه أسئلة عن أسلوبه الغنائي ومراميه الفنية، إذ تعيدنا هذه التجربة إلى الكالاراتورا وتجلياتها في ساحتنا الغنائية.”
الوفاء للموسيقى
شاويش لم يكن يوماً من الباحثين عن الشهرة أو الانتشار، كان يخلص لفنه بصمت، لا يسعى لتسجيل الألبومات، رغم توفر الفرص. قال عنه الناقد الفني صلاح شعيب: “لم يسعَ أحمد شاويش يوماً إلى تسجيل شريط كاسيت واحد، رغم أن ذلك كان متاحاً للجميع. طلبتُ منه مراتٍ كثيرة أن يفعل، لكنه لم يكن يعير الأمر اهتماماً ،لقد كان مخلصاً لمشروعه الفني، يغني ليطرب نفسه قبل الآخرين.”
وقد روى شعيب موقفاً إنسانياً يعكس طبيعة شاويش الرقيقة، حين طلب منه أن يغني في زواج الصحفي الراحل هاشم كرار، الذي كان يتغنى بكلماته. “لم يتأخر لحظة، حمل عوده وتحركنا بالباص في ذات اليوم، كانت سهرة بالعود فقط، لا أظن أن أهل الحصاحيصا ينسونها.”
تجربة درامية
ولم يكن شاويش مغنياً فحسب، بل كان ممثلاً ومؤلفاً موسيقياً في الإذاعة السودانية، عمل في إخراج البرامج والمسلسلات الإذاعية، مثل البيت الكبير وأب جاكوما، واستفاد من قدراته الدرامية وصوته المتميز في تجسيد الشخصيات والأحداث، وقد ساعده تعليمه الأكاديمي في الصوت وآلة العود على تطوير تقنيات خاصة في الأداء والتلحين، مكنته من دمج الموسيقى بالدراما، ومن استغلال المدى الواسع لصوته في تصوير الانفعالات وتجسيد الحالات.
وبرحيل شاويش، تُطوى صفحة فنانٍ لم تُفتح كما ينبغي في حياته، فنان لم يصرخ ليُسمع، بل همس طيلة عمره بصوته المرهف، كان إنساناً شفيفاً، وفي أعماقه طفلٌ مبدع، كما وصفه الاستاذ صلاح شعيب، لم يكن يلهث خلف الأضواء، بل كان مشغولاً بكيفية قول الجمال على طريقته.
أحمد شاويش لم يكن كثير الأغاني، لكنه كان كثيف الإحساس، لم يكن نجماً صاخباً، لكنه كان شهاباً في سماء الأغنية السودانية الحديثة، يضيء لمن أراد الاستماع بعين القلب.
برحيله، تفقد الساحة الفنية أحد الأصوات التي كانت تشبه الماء؛ لا لون لها ولا رائحة، لكنها لا غنى عنها، سكت العود، لكن صدى شاويش باقٍ في ذاكرة أولئك الذين سمعوه، وآمنوا أن الفن قد يكون رسالة لا تحتاج جمهوراً ضخماً، بل قلباً صادقاً فقط…وداعاً أحمد… كنت تكتب الأغنية وكأنك تكتب وصيتك.