الإعلام وأدواته كسلاح استراتيجي ضد السودان (5b) كسر الطوق الرمادي: معركة الوعي السيادي ضد سرديات التضليل

كبسولة وعي
الإعلام وأدواته كسلاح استراتيجي ضد السودان (5b)

كسر الطوق الرمادي: معركة الوعي السيادي ضد سرديات التضليل

كيف تحوّلت المنصات الرقمية إلى أدوات إماراتية لإعادة تشكيل الإدراك؟!

اقصاء السردية الرسمية، مع منح الدعم السريع منابر ترويجية واسعة

تُقدَّم ميليشيا أبوظبي كـ”طرف سياسي”، ويُشيطن الجيش الوطني كمنظومة انقلابية

بعد استعراضنا في الفصل الأول من الجزء الخامس كيف تحوّلت المنصات الرقمية إلى أدوات إماراتية لإعادة تشكيل الإدراك، ننتقل الآن إلى قراءة مقارنة تتجاوز المحلي إلى العالمي. فالهجوم على وعي السودان لا يُمارَس بأساليب استثنائية، بل يُدرج ضمن نمط دولي ممنهج جُرّبت أدواته سابقًا في دول وكيانات سيادية جُرّدت من شرعيتها، وقُدّمت فيها الجريمة باعتبارها “حلًا سياسيًا”.

في هذا الجزء، نستعرض نماذج دولية تُظهر كيف انقلب الإعلام من مرآة للواقع إلى مشرط يُعيد تشكيله، ومن وسيلة تفسير إلى أداة تفكيك. إنها حرب على الإدراك لا تبدأ من السودان، ولن تتوقف عنده. بل هي فصل متجدد من كتاب التضليل العالمي، حيث يُصاغ الانقلاب كحوار، والمعتدي كفاعل مدني، والمقاومة كخطر على “الاستقرار”.

*دروس من العالم: كيف تُستخدم السرديات لتقويض الدول وتشويه الوعي؟ نماذج دولية لفهم ما يُمارس ضد السودان*

*1. رواندا – RTLM والإبادة الجماعية (1994)*:إذاعة RTLM لعبت دورًا محوريًا في التحريض على إبادة التوتسي، بنزع إنسانيتهم ووصفهم بـ”الصراصير”.
*الصلة* :تتبنى منصات موالية للدعم السريع خطابًا مشابهًا، يُجرّد مكونات سودانية من إنسانيتها ويطبع الكراهية تمهيدًا للعنف.

*2. الولايات المتحدة – حرب العراق (2003)*:رُوّجت رواية أسلحة الدمار الشامل بدعم واسع من الإعلام، بينما أُقصيت الأصوات المستقلة.
*الصلة* : تُستخدم روايات زائفة — كمساواة الجيش بالميليشيا وادعاءات السلاح الكيميائي — لتبرير التدخل والعقوبات.

*3. السعودية – حرب اليمن (منذ 2015)*:تمت إعادة تقديم التدخل العسكري في اليمن عبر خطاب يحجب الرواية اليمنية.
*الصلة*:تُكرر الإمارات نفس النموذج لتلميع الدعم السريع وإقصاء السردية الوطنية الرسمية.

*4. أوكرانيا – حرب السرديات بين روسيا والغرب(2014–)*:شهدت الحرب معركة سرديات رقمية متضادة استخدمت فيها البروباغندا الدعاية الرمادية لحجب الانتهاكات وتضليل الرأي العام.
*الصلة* : يُقدَّم الدعم السريع كـ”طرف مدني”، وتُطمس خلفياته العسكرية، بينما يُحمَّل الجيش عبءًا أخلاقيًا مصطنعًا.

*5.فنزويلا – نزع الشرعية عبر الإعلام (2000s)*: روّج الإعلام الغربي بالتنسيق مع المعارضة لخطاب “الدولة الفاشلة” لنزع شرعية حكم تشافيز ثم مادورو، مما مهّد لانقلاب 2002 والتدخلات الدولية.
*الصلة* : تُسوَّق صورة السودان كدولة منهارة تستوجب “الوصاية الدولية”، في خطاب يُقصي الحكومة الشرعية ويُبرر فرض حلول مفروضة تُعيد هندسة الواقع السياسي.

*6. إسرائيل – غزة(2023-)*: أغلقت إسرائيل مكاتب الجزيرة لتكميم الروايات التي تُحرج أداءها العسكري.
*الصلة*: تُقصى السردية الرسمية، بينما يُمنح الدعم السريع منابر ترويجية واسعة بدعم إماراتي، تُقدّمه كضحية مدنية لا كفاعل مسلح.

*السودان كنموذج تطبيقي: كيف يُعاد تقديم العدوان كحل سياسي؟*
ما يجري في السودان ليس مجرد حرب، بل عملية إعادة تشكيل إدراكي ممنهجة، بتمويل وإخراج مباشر من نظام أبوظبي. وكما حوّلت إسرائيل الاحتلال إلى “دفاع عن النفس”، يُعاد تأطير العدوان في السودان كـ”نزاع أهلي”، وتُقدَّم ميليشيا أبوظبي كـ”طرف سياسي”، بينما يُشيطن الجيش الوطني كمنظومة انقلابية متكلّسة.

وفي قلب هذا الخطاب، يبرز ما يُسمى بـ”المكوّن المدني” — الوكيل السياسي لنظام أبوظبي — كعرّاب لشرعنة الميليشيا، يدعو للتفاوض معها تحت لافتات “السلام الشامل” و”الحل السياسي”، فيتحوّل الخطاب المدني إلى امتداد ناعم للمشروع العسكري الخارجي، لا بديلاً وطنيًا عنه.وحتى الكارثة الإنسانية المصنوعة — حيث تُمنع الإغاثة وتُنهب المساعدات — تُعرض إعلاميًا كـ”فشل في الحوكمة”، عبر خطاب رمادي يدعو إلى “وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية” دون تسمية المعتدي أو محاسبته.

ليست هذه زلات إعلامية، بل هندسة إدراكية محكمة0يُستخدم فيها الحياد الزائف لفرض سردية مقلوبة تُعيد تعريف الوقائع وتُضلل الوعي العام. وهكذا، يُصوَّر الدفاع عن السيادة كـ”تطرف”، والتمسك بالشرعية كـ”جمود”، بينما يُقدَّم العدوان الخارجي كـ”فرصة للسلام”. إنها عملية تفكيك ناعمة للدولة السودانية، تُدار تحت عباءة السلام الزائف والخطاب الإنساني المخادع.

*ردٌّ سيادي على حرب الإدراك: أدوات ومرتكزات*
ليست الحرب الإعلامية على السودان مجرد اختلاف في الروايات، بل هجومًا ممنهجًا يستهدف الوعي والسيادة معًا. ولا تُواجه هذه الحرب بالشعارات، بل بمنظومة سيادية متماسكة تُعيد ضبط السرد وتستعيد زمام المبادرة.

*أولًا: إصلاح سيادي مؤسسي*
• *وحدة أمن إعلامي سيادي:* ترصد الخوارزميات، تفضح التضليل، وتنسق خارجيًا مع البعثات لتوحيد الرسالة السودانية .
• *توحيد الخطاب الوطني:* من دفاعي إلى استباقي؛ خطاب ذكي بلغات متعددة وتحديث اللغة لتخاطب الداخل والخارج بفاعلية.
• *تأهيل الكوادر*: تدريب الإعلاميين على تحليل الخطاب وتفكيك السرديات المضلِّلة، إلى جانب دعم وحدات رصد يومية تُصدر تقارير استراتيجية حول التضليل الرقمي والإعلامي.

*ثانيًا: ضبط المنصات الإعلامية داخل السودان*
تحوّلت بعض المنصات والقنوات العاملة محليًا إلى أدوات لبثّ سرديات الميليشيا بتمويل خارجي أو غطاء مدني، مما يُقوّض السيادة الإعلامية ويشوّه وعي الجمهور.*الخطوات المقترحة:*
• تشكيل لجنة سيادية مستقلة لتقييم الأداء الإعلامي، تضم خبراء في الأمن القومي والقانون الرقمي.
• مراجعة التراخيص القانونية لجميع المنصات، خاصة الإلكترونية منها.
• إصدار ميثاق طوارئ يُفرّق بين حرية التعبير والمشاركة في تضليل حرب ضد الدولة.
• فرض عقوبات تصاعدية: تحذير، غرامات، سحب ترخيص، أو حظر مؤقت.
• إنشاء وحدة تقنية لرصد وتتبع الحسابات والمنصات المموّلة خارجيًا ورفع تقارير دورية للجهات السيادية.
• تفعيل التنسيق بين الإعلام، والاتصالات، والأمن السيبراني للرد الفوري على أي حملات استهداف ممنهجة.
.
*ثالثًا: تعزيز الوعي الشعبي للتمييز بين الحقيقة والتضليل*
• *التوعية الجماعية*: حملات توعية تُبسّط أدوات الخداع البصري، وتحلّل كيف تُصنع الشائعة وتُضخّم الصورة وتُحجب الوقائع.
• *تعليم التفكير النقدي*: التحقق، التفكيك، والتحليل.
• *دعم إعلام وطني مستقل*: مبادرات شبابية، توثيق محلي، محتوى غير مؤطر.
• *استعادة الثقة بالمؤسسات*: مصارحة مجتمعية واعية تعترف بالإخفاقات وتُقدم رواية عقلانية
• *تدويل السردية من الداخل*: إنتاج محتوى متعدد اللغات يُبرز سردية الدولة بلغة القانون وحقوق الإنسان، مدعومًا بمقاطع قصيرة وشهادات ميدانية تعيد رسم المشهد الأخلاقي دوليًا، وتُجيب بوضوح: من هو الضحية؟ ومن هو المعتدي؟.

*رابعًا: تفعيل الدبلوماسية الرقمية:* بالتنسيق مع إدارة الإعلام والاتصال في مفوضية الاتحاد الأفريقي، لتعزيز سردية الدولة السودانية عبر المنصات الرسمية، والتصدي لمحاولات التزييف والتهميش، بما يضمن حضورًا سياديًا على الساحتين القارية والدولية.

*خاتمة: ما بعد الهسبارا… حين تتحول الحقيقة إلى برمجة*
في كل مرحلة من هذه السلسلة، كشفنا طبقة أعمق من معركة لا تُخاض بالسلاح وحده، بل تُدار من داخل الوعي نفسه. من نظريات التأطير والغرس الثقافي، إلى البروباغندا الرمادية، ثم الإلهاء والشائعة، وصولًا إلى هندسة الإدراك عبر الخوارزميات واتساع رقعة الرسائل اللاواعية — لم يكن ذلك مجرد رصد لأدوات، بل تشريحٌ لمنظومة حرب ناعمة تُمارس على السودان والمنطقة العربية.
لكن الأخطر، كما ظهر في هذا الجزء، أن هذه الحرب لم تعد تدور حول ما يُقال، بل حول من يُسمح له أن يقول، ومن يُقصى من أصل المشهد. بين ما يُنتَج داخل البلاد، وما يُبث عنها من الخارج. بين وعيٍ ينهض من الألم، وآخر يُبرمج في غرف السيطرة الرقمية.

لم تعد “الهسبارا” ظاهرة إسرائيلية فقط، بل أصبحت بنية قابلة للاستنساخ، تتجلى اليوم في أكثر صورها نعومة عبر النسخة الإماراتية. سردية تسرق الفضاء العام، وتُعيد تشكيل الوقائع بلغة الحياد القاتل، والتوازن الزائف، والخطاب الرمادي الذي لا يُسمّي الجريمة، بل يدفنها تحت عبارات مثل “الطرفان مذنبان”، و”المدنيون المعتدلون”، و”حل تفاوضي”.

إن إدراك حجم هذه الحرب لا يقود إلى الصدمة، بل إلى بناء وعي نقدي جديد؛ وعي يُفكّك الصورة كما صُمّمت لا كما عُرضت، ويُعيد تعريف المفردات قبل أن يُعيد تعريف المواقف. لأن الحقيقة لا تُستعاد بالشعارات، بل بالتحليل، والصبر، والصوت الذي لا يُصادر. فإذا كان الإعلام قد تحوّل إلى ميدان معركة، فإن الإدراك هو خط الدفاع الأخير. وإذا كانت الحقيقة تُدفن تحت الخوارزميات، فإن الوعي وحده هو من يُنقّب عنها ويستخرجها.
نحن لا نواجه آلة تضليل فقط، بل مشروعًا لإعادة تعريف من نحن، ومن عدونا، ولماذا نقاوم.
ولذا، فالمعركة مستمرة… لكنها لم تعد معركة سرد، بل معركة وعي.

*من المتمة إلى كرري، ومن شيكان إلى أم درمان، تواصلت بطولات قواتنا المسلحة السودانية عبر الأجيال. أنتم درع الوطن وسياجه، حماة الأرض والعِرض، والسيف الذي لا يُغمَد في وجه العدوان. أنتم عنوان الكبرياء، وسلالة من قاوموا الغزاة ورفضوا الانكسار. المجد لكم، وأنتم تكتبون فصلاً جديدًا في سجل العزة والسيادة. رحم الله شهداءنا، وعافى جرحانا، وردّ مأسورينا إلى أهلهم سالمين غانمين.*
bitalmakki@gmail.com