إعلام بلا ظل: حين يُسرق الصوت ويُمنح القُبح منبرًا مسيلمة آل دقلو: الوجه الإعلامي لميليشيا الجنجويد

كبسولة وعي

إعلام بلا ظل: حين يُسرق الصوت ويُمنح القُبح منبرًا

مسيلمة آل دقلو: الوجه الإعلامي لميليشيا الجنجويد

تفاقم ظاهرة استضافة وجوه مستهجنة متواضعة معرفيًا، ساقطة أخلاقيًا..

هذه المنصات أدوات لتفريغ للمأساة السودانية من معناها، وتحويلها لمادة ترويجية مبتذلة

في مقابل هذا الزحف الإعلامي المنظّم، يغيب التلفزيون القومي عن معركة الوعي

 

إعلام الدولة يغطّ في سبات بيروقراطي، كأن البلاد بخير

*بقلم صباح المكي*

في ظل الغياب التام لأي قوانين رادعة من وزارة الإعلام، وتلاشي منظومات المساءلة تجاه القنوات الأجنبية العاملة في السودان، تتفاقم ظاهرة استضافة وجوه مستهجنة متواضعة معرفيًا، ساقطة أخلاقيًا، تُقدَّم على أنها مرجعيات فكرية، وهي لا تعدو أن تكون انعكاسًا لانهيار الخطاب، وجهل مركّب يرتدي بذلة ويصرخ بـ”حرية التعبير”.

هذه المنصات، التي تُفتح لها الأبواب على مصاريعها، لا تصدر سوى ضجيجٍ متوتر، ولغةٍ مرتجفة بالكاد تُفهم. تُنصَّب أبواقًا للحقيقة، وهي في واقعها أدوات تفريغ للمأساة السودانية من معناها، وتحويلها إلى مادة ترويجية مبتذلة،
وسخرية استهلاكية في أعين المتلقي العربي والدولي.

وفي مقابل هذا الزحف الإعلامي المنظّم، يغيب التلفزيون القومي عن معركة الوعي. التلفزيون القومي يكتفي ببرامج رتيبة، ونقاشات خشبية، يتجاهل تمامًا ما يدور في الساحة الإعلامية العالمية من إعادة تشكيل للرواية السودانية، سواء على مستوى القنوات الدولية أو حتى وسائل التواصل الاجتماعي التي تحوّلت إلى ساحات نفوذ وتأثير وسرديات بديلة.

وبينما تنشغل القنوات العالمية — ومنها من يعمل من داخل البلاد نفسها — بتأطير السردية وتوجيه الانطباع العام، يبقى الإعلام الرسمي متقوقعًا في زمنٍ آخر، غافلًا عن معركة الوعي التي تدور على مرأى من الجميع، فوق رؤوس المواطنين، ومن دون مشاركتهم.

العالم يتحدث عن السودان، يرسم مصيره، ويُصدر الأحكام من فوق شاشاته، بينما إعلام الدولة يغطّ في سبات بيروقراطي، كأن البلاد بخير، وكأن الحرب لم تقع أصلًا. تُترك الساحة الإعلامية خالية، لتمتلئ بأصوات لا تشبهنا، وألسنة لا تنطق بلساننا، ووجوه لا ترى في السودان إلا أرضًا متنازعًا عليه قابلة للتوظيف السياسي. وكأن السودان لم يعد وطنًا، بل حقلًا تتقاسمه الميليشيا بالبارود، والمموّلون بالصفقات، فيما تنشغل المنصات الأجنبية بتجريد الجيش من شرعيته، وتقديمه كطرف معطّل بدلاً من كونه العمود الأخير الذي ما زال يحفظ للدولة هيبتها ووجودها.

يُترك المواطن السوداني أعزل في مواجهة سيلٍ من الروايات المصنّعة في غرف تحرير إقليمية ودولية. تُفرض عليه كحقائق مطلقة، دون أن يجد منصة وطنية تنطق بلسانه، وتحاكي وعيه أو تدافع عن سرديته. وجوه دخيلة تتسلّل إلى وعيه من الشاشات والمنصات، تدّعي الحديث باسمه، وتخاطبه بخطاب مصنّع يُصاغ بلغة أقرب إلى الدعاية منها إلى الطرح المهني. يُنصّب أصحاب هذه الخطابات أنفسهم أوصياء على وطنيته، يوزّعون صكوك الانتماء من استديوهات مموّلة، ويُشرعنون صفقات مشبوهة تُبرَم باسمه، ويحرّضون علنًا على الجيش.

كل ذلك في ظل صمت رسمي مريب، وانسحاب كارثي للإعلام الوطني من معركة هي في جوهرها معركة وعي ووجود، وتخلٍ شبه كامل عن معركة السردية، كأن الرواية الوطنية ترف لا ضرورة له في زمن الدم.

وعلى هذا المسرح العبثي، لا يسعنا إلا أن نتساءل: على سبيل المعاملة بالمثل لماذا لا نرى على شاشاتنا معارضين من الدول “المانحة للدروس” في حرية التعبير؟ لماذا تُفتح الشاشات فقط لمعارضين سودانيين، بينما معارضو الدول المموّلة لا يُذكرون حتى همسًا؟ لماذا تقتصر المنابر على معارضين سودانيين، بينما يُحجب معارضو المموّلين، وتُطوى أصواتهم في الصمت؟ هل أصبحت المعارضة امتيازًا سودانيًا؟ وهل حرية التعبير مكفولة للجميع… ما لم تمسّ مصالح شركاء النفوذ؟

يبدو أن السودان هو المختبر المفتوح الوحيد، حيث تُعبّأ السرديات في الخارج، وتُحقن في وعي الداخل، دون استئذان، ولا مساءلة. حيث تُختبر فيه حدود النقد، ووجوه مصنّعة، وآراء “مستقلة” لا تنطق إلا بما تم تلقينه. أما مجرد التلميح بوجود معارضة داخل صانعي المحتوى وممولي السردية، فذلك يدخل في دائرة المحظور: لا يُشار إليه، لا يُسأل عنه، ولا يُفكّر فيه أصلًا.

*مسيلمة آل دقلو: الوجه الإعلامي لميليشيا الجنجويد*

ثمة عبارات في الأدب وجُمل لا تُنسى، ليس فقط لبلاغتها، بل لأنها تنفذ إلى جوهر الحقيقة. من بين تلك العبارات والجُمل ما كتبه *عبد العزيز بركة ساكن في وصف الجنجويد في روايته مسيح دارفور:*

*_”أهون للجمل أن يلج من ثقب إبرة من أن يدخل جنجويد ملكوت الله”_*

*_”قومٌ عليهم ملابس متسخة مشربة بالعرق والغُبرة، يحيطون أنفسهم بالتمائم الكبيرة، لهم شعور كثّة، تفوح منها رائحةٌ نتنةٌ قذرة، هي رائحة الصحراء والتشرد… رضعوا من ثدي أشعة الشمس الحارقة… نشؤوا على قتل بعضهم البعض… في بيوت العنكبوت ومثله يعيشون… لا خُلق ولا أخلاق لهم… الواحد منهم يطأ أخته وأمه وخالته وعمته، لا حرمة لديهم… أوباش أو أضل… على أكتافهم بنادق تطلق النار لأتفه الأسباب، وليست لديهم حرمة للروح الإنسانية؛ لا يفرّقون مطلقًا ما بين الإنسان والمخلوقات الأخرى، وتعرفهم أيضًا بلغتهم الغريبة ” الضجر” ، وهي عربي النيجر أو الصحراء الغربية. ليس لديهم نساء، ولا أطفال، ولا بنات… ليس من بينهم مدني ولا متدين ولا مثقف، ليس من بينهم معلم أو متعلم، مدير أو حرفي… ليست لديهم قرية أو مدينة أو حتى دولة… ليس لديهم منازل يحنّون للعودة إليها في نهاية اليوم… يقسمون بالله ولا يعرفون أين هو… يكبرونه تكبرًا لا تأدبًا… ولا يفهمون معنى للتكبير… نزع الله من قلوبهم الرحمة التي لم يجدوها من أب أو أم… فهم أغلبهم أبناء سفاح، لا يتورعون في فعل المنكر، صغيرهم أو كبيرهم أو حتى شيخهم…”_*

لم تكن تلك العبارات مجازًا أدبيًا، بل تشريحًا أخلاقيًا لحالة انحطاط عصيّة على الغفران، مهما ارتدت من أقنعة، أو تزيتت بشعارات مدنيّة جوفاء. تذكّرتها، وأنا أشاهد الوليد مادبو، وقد انطبقت عليه تمامًا مقولة: *”تعب الداية وخسارة السماية”.*

ذلك الصوت الذي أُلبِسَ زورًا صفة “الخبير”، اعتلى منبر الجزيرة مباشر، لا ليحلّل، بل ليهدم. لم يكن حضوره نقاشًا، بل استعراضًا مسرحيًا لمسخٍ ناطق بلغة “المدنية”، لكنه معتنقٌ لعقيدة الميليشيا. ما قدّمه لم يكن رأيًا، بل خيانة تُبثّ على الهواء، بلسانٍ مغموس بالتحريض، ومواقف تفوح منها رائحة المشروع الذي قتل البلاد، وشرّد العباد.
أستاذ “الحوكمة الرشيدة” — ويا للمفارقة — راح يوزّع الاتهامات على قادة الجيش كما تُنثر المنشورات في الهواء؛ يكذب، يناور، ويتراجع كلما ضاقت به الحُجّة. حتى انقلبت الأدوار، وصار المذيع أحمد طه هو من يحاول جاهدًا أن يعيده إلى رشده، ويقنعه ببعض العقلانية. لكن الجهوية المقيتة كانت قد أطبقت عليه، وأعمت بصيرته عن أبسط معايير الاتزان.

كان لسانه يقطر سُمًّا، يستعرض بلا قامة، وتفوح من كلماته رائحة عنصرية نتنة. يتحدث بلغة *”الضجر”*، فلا فرق بينه وبين أبناء عمومته القادمين من عمق الصحراء. لغة جسده تنطق بحقد دفين تجاه مكوّنات السودان. يلوِي عنق الحقيقة، ويتعالى ويتكبّر، ويتحدث بعنجهية لا مبرر لها — كمن ظن أنه سيخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولًا.
لقد اختار طوعًا أن يكون *مسيلمة آل دقلو*: يُموّه، يُبرّر، يُجمّل وجوه القتلة، ويُلبس المشروع الميليشياوي قناع “المدنية” — لا من داخل كهف، بل من داخل منبر إعلامي مرموق. كانت الحلقة درسًا مريرًا في كيف تُختطف الرواية، وكيف يُقدّم الخداع للناس بوجه باسم وبدلة أنيقة، بينما السمّ يقطر من كل مفردة.

لقد حجز مسيلمة آل دقلو — صدقًا وعدلًا — صدارة المجلس في مستنقع الجنجويد.

وكما قال أهلنا:*”القلم ما بزيل بلم، ومرمي الله ما بترفع”.*
فليس تحت البدلة الأنيقة، في نهاية المطاف، سوى ذات الجنجويدي الذي وصفه عبد العزيز بركة ساكن. لا فرق.

*وختامًا نقول*:
المعركة اليوم لم تعد فقط على الأرض، بل على المعنى ذاته — على من يملك حق رواية الحكاية، ومن يُقصى منها.لسنا بحاجة لمزيد من “الخبراء” المستوردين ممن لا يحملون من الفهم سوى عداءٍ دفين لهذا الوطن ولا يحملون إلينا سوى عداءٍ مقنّع، ورؤية مشوّهة تُبنى على إنكار الذات الوطنية وشيطنة مكوّناتها.

آن الأوان لوضع سياسات إعلامية حازمة تردع هذا التوغّل الناعم الذي نسمح به بلا مساءلة. فإن سكت أهل الحق عن الحق، ظن أهل الباطل أنهم على حق. ما نحتاجه حقًا هو إعلام وطني يعرف من نحن، ويتحدث بلساننا لا بلسان وصي، ويكتب سرديتنا من قلب المعاناة، لا من صالونات الخارج. نحتاج إلى مساحة نقاوم فيها بالوعي، ونحرس فيها الحقيقة من التزييف. وحتى إن تعددت المنابر الزائفة وتكاثرت الوجوه المأجورة، فإن لهذا الوطن أهله، وله صوته، وله حكاية تُروى بصدق — لا تُختزل في نشرة، ولا تُؤدى على مسرح ساخر.

فالوعي لا يُستورد، والكرامة لا تُستعار، والرواية التي لا يكتبها أهلها تتحوّل إلى سلاح ضدهم.

نكتب، نفضح، ونقاوم — بالكلمة، بالمعنى، وبالإصرار.
لا حبًا في المواجهة، بل دفاعًا عن حقّ الوجود، وإيمانًا راسخًا بأن أحدًا لا يملك الحديث عنّا… سوانا.

عاش السودان حرا ابيا، ولا نامت اعين الجبناء.
#القوات_المسلحة_السودانية_تمثلني
bitalmakki@gmail.com