للحقيقة لسان رحمة عبدالمنعم الخرطوم تنادي أهلها يا أبا حباب

للحقيقة لسان

رحمة عبدالمنعم

الخرطوم تنادي أهلها يا أبا حباب

قرأتُ، كما قرأ غيري الثلاثاء الماضي، مقال الصديق العزيز الأستاذ محمد عبدالقادر (ابوحباب)رئيس تحرير صحيفة (الكرامة) الذي حمل عنواناً حاداً (الخرطوم غير صالحة للعودة.. وهذا هو المطلوب!)، وتصدّر منصات التواصل الإجتماعي كاشفاً حجم القلق الذي يسكن النفوس حيال العاصمة الجريحة، التي أنهكتها الحرب وأثقلتها الندوب.

لقد كتب محمد بلغةٍ صادقةٍ مشحونةٍ بالألم، مستنداً إلى مشاهدات واقعية وقف فيها بنفسه على حجم الكارثة في قلب الخرطوم، حيث الرماد والأنقاض، والبيوت التي كانت يوماً عامرة بالأحلام، ثم باتت مأوىً للذكريات والكلاب الضالة، وأنا، وإن كنت لا أختلف معه في توصيف المشهد، أختلف معه في الاستنتاج.

فالخرطوم، مثلها مثل مدن كثيرة عبر التاريخ، عرفت الخراب، وعرفت النهوض، بيروت، برلين، بغداد، كلها احترقت، لكنها قامت من جديد لأن أهلها لم يغادروها إلى الأبد، بل ظلوا فيها، أو عادوا إليها، يرون في العودة ليس تحدياً فقط، بل مسؤولية.

المقولة الشعبية السودانية تقول: “المدن بعمروها ناسها”، وهي مقولة ليست إنشائية، بل فلسفة حضارية، فالمكان بلا إنسان يذبل، وبالناس تُسقى الحياة وتُبعث من جديد ،نعم، الخرطوم اليوم ليست “جنة رضوان”، كما كانت تُوصف يوماً، لكنها أيضاً ليست “خرابة شيطان” إلى الأبد، إن اختار أهلها أن يقيموا فيها مجدداً ويبدؤوا الترميم، لا فقط بالأسمنت، بل بالإيمان بقدرة الحياة على الانبعاث من تحت الرماد.

في أم درمان وشرق النيل وجبل أولياء، عادت الحياة بأبسط الإمكانيات، وبمبادرات ذاتية، حفرت الآبار، وأنارت الشوارع، وسيّرت الدوريات الشعبية قبل أن تصل الشرطة،هذه لم تكن مدن “صالحة” في البداية، لكنها أصبحت كذلك حين عاد الناس. والخرطوم لا تختلف عن شقيقاتها.

لا أنكر حجم الدمار في قلب الخرطوم، ولا أشكك في صدق وجدان (ابوحباب) وهو يكتب، لكننا نحتاج إلى خطاب يُراكم على الواقع لا أن يستسلم له، فالقول بإغلاق العاصمة ثلاث سنوات و”نسيانها” يبدو خياراً قاسياً وواقعياً من حيث الألم، لكنه غير عملي من حيث السياسة والحياة.

المطلوب ليس الإغلاق، بل التخطيط، إعادة التوزيع، والإعمار الذكي. نعم، الخرطوم تحتاج إلى لجنة قومية، لكن دور هذه اللجنة لا يجب أن يكون تأجيل الحياة، بل تسهيلها، نحتاج إلى خطة تبدأ بالناس لا بالخرائط فقط، وتعيد التوزيع العمراني، نعم، وتصلح البنية التحتية، نعم، لكن دون أن تنسى أن الذين سيعمرون هذه المدينة هم من هجّرتهم الحرب، ويشتاقون إليها كما تشتاق الأرض إلى المطر.

أفهم غضب صديقي محمد عبدالقادر ، وأتفهم وجعه، لكنه – من حيث لا يقصد – يضع نقطة نهاية في جملة كان ينبغي أن تكون مفتوحة، الخرطوم الآن جملة لم تكتمل، وقد تكون العودة إليها اليوم مرهقة، لكنها ليست مستحيلة، والمؤامرة ليست في دعوة الناس للعودة، بل في تركهم معلقين في المنافي بلا أمل، أو في تحويل العاصمة من ملف وطني إلى جرحٍ نخجل من النظر إليه.

نختلف، أنا ومحمد، لا في حب الخرطوم، بل في زاوية النظر، هو رآها مريضة، فأوصى بعزلها، وأنا أراها تتنفس بصعوبة، فأقترح أن نمدّ لها أنبوبة حياة، عبر الناس أولاً، فالناس هم الوطن، وليس الجدران.

ومن المؤلم حقاً أن يُرمى موظف الدولة أو العامل أو الجندي في معركة الحياة بلا أدنى مقومات البقاء، لكن هذا لا يعني أن الحل هو الانسحاب من العاصمة، بل أن نطالب الدولة بما يلزم حتى تجعلها قابلة للحياة، ولو بأقل قدر ممكن من الكرامة والأمان،ربما آن أوان أن ننتقل من سرد المأساة إلى فتح كوة في الجدار. الخرطوم لم تمت بعد، وما زال في الصدور متّسعٌ لأملٍ صغير… يبدأ بعودة الناس، لا بانصرافهم.