من أرض المحنة من قلب الجزيرة…
وأنتصرت إرادة الشعب السوداني!!!!!
لهيثم التهامي والشوبلي ..وتلك العابرة …عادت مدني!!!
عادت عاصمة الجزيرة وستعود الخرطوم وتصمد الفاشر وتنتصر نيالا
كتب – علم الدين عمر
..غادرت الخرطوم يومها والقلب مترع بالأشجان ..معلق بين أهداب الثريات البعيدة ..علي ضفاف الأماني والجراح الغائرات ..كنت ومن يصحبني علي ظهر ذاك القارب البائس ..محطم الجوانب -مثل روحي التي أنسدلت علي كف القدر ..تدافعه بالإنكار ويخاشنها بالإذعان ..تباعدت الخرطوم بأشواقها وجراحاتها وقد لامس دخان الحريق حُجب الأفق فبدت متاهات الشفق البعيد كمسار من الدم بين خيوط الشمس الغاربة…
كانوا قد أستباحوها مثل عذراوات التاريخ ..هادئة وجميلة وحنينة ..وخانعة للأنس وبراءة المدن الأمان..
وعلي تخوم الجزيرة ألقيت عصا الإستسلام الأول ..تصالحاً مع جرحي (المنوسر) كمداً وغبينة..
كانوا كقطع الليل البهيم المخيم علي أوتار الحياة وعصب السكون ..مثل جرذان الصحراء تسللوا لمسام السكينة والتسامح فأنتهكوا عذرية ما فضتها من قبلهم حادثات الأيام وسديم السنين…
وجوههم تعلوها الهزيمة التي خُيل لبؤسهم أنها أنتصار…
تربصوا مثل الشهب التائهة بين النجوم بمساحات السماحة لدي شعب ما عرف الخيانة قبلهم ولا أختبر الغدر بين (نفاجات) البيوت الفاتحة علي (القبل الأربعة) ..مثل بلاده الواقفة كالطود علي بوابات التاريخ ..الذي أستأذنه للقفز فوق المراحل والجراح ..
كنا يومها نتقاسم الأمل الشحيح علي مائدة الحبيب الطيب حاج الصديق (مسمّر) ذات فرح عابر في قلب الأحزان ..وللرجل في مقام الرجال مقام…تقاصرت الأيدي المتوضأة بالعشم عن الطعام حين صاح فينا نذير ..أن سقطت مدني …
سقطت مدني في تلك الجمعة الحزينة -المهينة -القادمة من مجاهيل التاريخ..
سقطت مدني يومها وسقطت كل الأشياء ..
وترنحت الأماني علي شفا الحزن المقيم..
سقطت مدني فتقطعت أوصال السودان وتداعت مسارات الأمان ..
لعام كامل توقفت بشارات الوقت عن الدوران وتجمدت في عروق الخرطوم دماء العودة …
ثم هاهي تعود ..لتنتهي غيبوبة الوقت وإغفاءة الزمان ..
عادت مدني ..ومن قلب الجزيرة عادت للسودان الحياة..
عادت مدني وأنتصرت إرادة الشعب السوداني…
عادت مدني وأبتسمت ضفة النيل لأمواج الصباح…
عادت مدني وآن للسنابل أن تعانق القناديل…
عادت مدني وأنتهت أسطورة الجنجويد وأشباح الليل التي عافها حتي العواء الأشتر لذئاب الصحراء..
عادت مدني وآن للمآقي أن تذرف دموع الأسي والشجن والفرح النبيل…
عادت مدني مقدمة كاسحة لعودة السودان …
عادت مدني تلخيص باذخ لدماء الشهداء المهراقة علي عتبات المجد القادم..
عادت مدني بالأسي ومُر الذكريات – كما ينبغي وتكللت جباه الرجال بالبارود وسمرة الأرض ..
عادت مدني لما تبقي من معركة الكرامة ومظان النصر المؤزر بالإرادة…
عادت مدني وحُق لنا أن نقيم صبح الخلاص (حاضر) علي محرابها المقدس..
عادت مدني لعيني طفلة (وسط اللمة منسية) أرهقها النزوح وأفزعها الرصاص _كنت قد ألتقيتها يوماً فوقعت لها علي دفتر العابرين..
(صديقتي الصغيرة ..العنيدة …مشتاقين) – كانت قد أيقظتني هذه الصغيرة المشاغبة ..بمودة من غفوتي النفسية وأنا أنازع فكرة التحديق في اللاشيئ التي أصابت غريباً مثلي ( في المداين الضائعة ضايع لي زمن ) ..كانت ترقد بسلام علي كتف والدتها ..النازحة مثلي من ديارها وذكرياتها ..وفجأة أنتبهت لوجودي في مقعد الحافلة خلفها تماماً فسكنت ..وبدا عليها الفرح ..ورويداً رويداً نشبت بيننا صداقة صارخة ..أمسكت تلك الصغيرة الجميلة بأصبعي بكلتا يديها فأيقظتني من غفوتي ..تلك التي تشبه الغيبوبة .. ربما هي لا تدري أين وجهتها فقد عصفت الحرب بعشها الذي تعلم ..ولكنها علي أي حال سعيدة ..وجميلة ..بدت أمها متعبة فأستكانت لفكرة إنشغالها بي ..تمكنت هذه العيون البريئة مني تماماً ..تري ما فعل أولئك الهمج بألعابها وسريرها وأشيائها البسيطة ..ثم فجأة تركت أصبعي وأنصرفت لشأن آخر ..فعدت لغيبوبتي ريثما أيقظني بكائها هذه المرة ..وجدتها تحدق بي (بغبينة) .. فيم كانت تفكر؟ حاولت أن أعيد أصابعي لها فرمقتي بنظرة عتاب ..بل عو غضب ..أختلط علي الأمر ..وكأنها تحملني مسؤولية ما ..ثم رفضت تماماً التنازل عن موقفها ..وأحتدمت معركة الكرامة بيننا ..كلما مددت لها يدي إزدادت نظراتها حدة ..وبدا علي ملامحها الحرد ..لثلاث ساعات متواصلة ظللت أتودد لها في صمت وتصدني في سكون ..حتي بلغت وجهتي ..رمقتني بلحاظ عينيها الفتاك ..ثم بغتة ..أمسكت بأصبعي وكأنهات تودعني ..وأنسربت لحضن أمها ..
صغيرتي الجميلة العنيدة ..
أيتها العابرة ..لقد أعاد الأبطال مدني فأبتسمي ..وأذكريني…
عادت مدني لضحكة صديقي هيثم التهامي وبناته اللاتي غادرنها ذات ليلة عاصفة ملتاعات باكيات …
عادت مدني وعاد لليل الألق وللمساء البريق…
عادت مدني لأنها أستعصت عليهم وتبددت أحلامهم علي موجها الهدّار بالمودة والمحبة ..
عادت مدني وستعود الخرطوم وتصمد الفاشر وتنتصر نيالا وتتهادي غزلان الفلا علي رمال الأبيض …
عادت مدني وقد أستعصت علي الحروف وتأبي المداد وتمنعت القراطيس فأعذروني وتصالحوا مع شجني ..
عادت مدني وأقتحمها الرجال عنوة والشمس في كبد السماء فقر عيناً يا صديقي المقدم (بسالة) فتح العليم الشوبلي …
عادت مدني وعادت لنا أرواحنا وللسودان فرحته ..عوداً حميداً مستطاب.