حاجب الدهشة علم الدين عمر إرفعوا أيديكم عن الشرطة السودانية!

حاجب الدهشة
علم الدين عمر

إرفعوا أيديكم عن الشرطة السودانية!

..حملة ممنهجة تلك التي تستهدف الشرطة السودانية هذه الأيام إذ لا يمر أسبوع إلا ويخرج علينا جوقة من الأقلام الموجهة ممن أمتهنوا إستدرار العواطف المناطقية.. بسردية جديدة تحاول دس السم في جسد الشرطة.. تارة بإسم الإصلاح وأخرى تحت لافتة “رد الحقوق” لأبناء إقليم بعينه.. وكأن هذا الجهاز القومي العريق بات إرثاً قبلياً لفئة أو جهة أو منطقة.
لقد تابعتــ بإمتعاض ــ ما ظل يُكتب بإلحاح في زاوية أحد الزملاء الصحفيين والتي تحولت إلى ما يشبه النشرة المناطقية هذه الأيام.. تُمارس ضغطاً ممنهجاً على قيادة الشرطة.. وتستبطن تهديداً غير مستتر لكل من لا يخضع لمعادلة “المحاباة الجهوية”.. ففي المقال تلو الآخر.. يطالب الكاتب ــ تلميحاً أو تصريحاً ــ بإعادة هيكلة جهاز الشرطة بما يُرضي طموحات جماعته.. متكئاً على لغة مواربة في ظاهرها..خبيثة في باطنها..
حتي بلغ الأمر حد التهكم على مدير الشرطة الفريق أول خالد حسان محي الدين.. لمجرد أنه لم “يسارع” إلى زيارة وزير الداخلية الجديد لتهنئته.. كما فعل “الوافدون” ــ بحسب وصفه ــ وكأن الولاء للقادم الجديد يُقاس بعدد الزيارات وتوقيت المجاملات!! ثم خرج علينا أحد المتداخلين معه ليجزم أن المدير “إنتهت فترته” بهذا الموقف.. وأن شمسه لن تشرق مجدداً في موقعه..
أي منطق هذا؟ ومن أين يستمد هؤلاء هذه الجرأة البائسة على تهديد مؤسسة بحجم الشرطة السودانية؟ هل صارت المناصب تُدار من الأعمدة الصحفية؟ وهل تحول التهليل للوزير الجديد إلى معيار للبقاء أو الإقصاء؟
ثم تطورت الحملة إلى ما هو أخطر.. تسريبات مشبوهة عن “تصفية” عدد من قيادات الشرطة.. وإحالتهم إلى التقاعد بطريقة لا تخفى رائحتها المناطقية..بل وتدخل حتي في أمر ممثلي الشرطة في المحطات والبعثات الخارجية وكأن هناك من يخطط لإجتياح هذا الجهاز وتفصيله على مقاس جهوي مناطقي في أخطر محاولة لإختراق مؤسسة يُفترض أن تبقى محصنة عن هذا العبث الرخيص..
إن ما يغفله هؤلاء أو يتغافلون عنه عمداً.. أن الشرطة السودانية أكبر من أن تُختزل في إقليم.. وأشرف من أن تُدار بمنطق الغنائم. إنها مؤسسة قومية تمتد جذورها في كل شبر من أرض السودان.. وشبكتها البشرية من ضباط وضباط صف وجنود.. موزعة على كامل الخارطة الجغرافية والإجتماعية للبلاد.. لم تكن يوماً أداة للإقصاء أو التمكين..بل كانت من أبرز ممسكات الهوية الوطنية الجامعة..
ومن يراقب المشهد عن كثب.. يدرك أن منسوبي الشرطة – أثناء الخدمة وبعدها – هم من أكثر الفئات حضوراً في الحياة العامة.. رجال ونساء مجتمع..خبراء أمنيون.. إداريون..قادة رأي، وسند مجتمعي في الأحياء والمدن والقرى..والمؤسسات تجدهم في لجان الصلح، في مظان التوعية..في المبادرات الوطنية..وحتي الإدارات الأهلية ..والأندية الرياضية.. إنهم أبناء الوطن من طبقته الصلبة..لا أبناء جهة ولا قبيلة.. ومن يجهل هذا البعد المجتمعي العميق للشرطة فليس مؤهلاً للحديث عن إصلاحها أو نقدها.
أما السيد وزير الداخلية الجديد.. صاحب السجل المعروف في جهاز الشرطة..فنوجه له حديثاً واضحاً لا يحتمل التأويل ولا التردد ..أنأ بنفسك عن هذا المستنقع.. وأحذر أن تُستخدم منصتك الوزارية غطاءً لحملة إختراق قبيحة لجهاز الشرطة ..أنت وزير داخلية السودان لا ممثل إقليم.. وشرعيتك المهنية لا تُبنى على إرضاء دعاة المناطقية.. بل على حماية حياد المؤسسات ووقارها.
إن ما يجري اليوم محاولة خطيرة لإختطاف جهاز الشرطة.. وصياغته وفق رغبات فئة لا ترى في الوطن سوى طريق لمصالحها.. هذه ليست إصلاحات.. بل تسويات وقحة.. لن تؤدي إلا إلى تقويض ما تبقى من مؤسسات الدولة.
نقولها للمرة الأخيرة..
الشرطة السودانية ليست ملكاً لأحد.. لا فرد ولا فئة ولا إقليم.
ومن يقترب منها بهذه الطريقة الرعناء.. إنما يهدد بقاء الدولة ذاتها..ووجوده وإقليمه في معادلة السودان الدولة والمجتمع.