ديارنا ورجاء الغائبين…
بين الخرطوم ويافا… وجع لا يعرف حدودًا..
الطاهر يونس
لم يكن في الحسبان أن أكتب عن الرحيل،
ولا أن أكون شاهدا على وجع النزوح.
كنت أظن ببساطةٍ طفولية
أن للخرطوم مناعةً ضد الغياب،
وأن الطمأنينة التي رافقتني لسنوات لا تتبدد ويذهب ريحها.
لكن المدن علي مايبدو تبكي حين يغادرها أهلها خلسة،
متصدرين نشرات الأخبار بحقائب فوق الرؤوس،
وصورٍ ترتجف فيها عيون الأطفال والنساء،
ودموعٍ تسبق الخطى التي تخشى أن تُزعج صمت الشوارع.
كانت تطربني بلا ادراك عميق وإحساس يلامس جوهر المعني رائعة(…) التي يتغني بها مصطفي سيداحمد وأردد خلفه :
“مهما هم تأخروا فإنهم يأتون”،
لم أكن أدرك في قمة إعتيادنا أنها ستُقال عنا ذات يوم،
ولا أن مفتاح العودة رمز النكبة سيصير رمزًا في أيدينا أيضا
بعد أن كان لصورة لاجئة فلسطينية
أنهكها البعد وقسوة العدو..
نعم…
ذاك المفتاح الذي تحمله العجوز المنحنية،
ليس لقصرٍ منيف أو بيت فخيم،
بل لباب خشبي بسيط،
لبيتٍ كانت فيه الحياة تنبض،
والضحكات تسكن الزوايا،
والصلاة تُرفع من كل ركن في كل صباح.
كنت أظن أن النكبة حكاية تخص غيري متجاهلا السنن الكونية..
وأن الشتات لا يُكتَب علينا،
وأن التيه لا يعرف أسماءنا…
لكنني تعلمت الآن —
أن الفقد بلا حدود،
وأن للوجع جذورًا تمتد من “يافا” إلى “الخرطوم”،
ومن كل بيت هُدم، إلى قلب كل منفيّ.
تعلمت الان يقينا أن الوطن حين يُنتزع من صدرك
يترك وراءه نزيفًا لا تداويه الكلمات،
ولا تُطفئه النشرات التي تطارد سبق الاخبار..
فكل وطنٍ يُؤلم حين تُغادره مكرهًا،
ولا يهم إن كان اسمه “يافا” أو “الخرطوم”…
ففي النهاية هو وجعك.
اليوم وبعد أن بدأ الضياء يبدد عتمة الليل الثقيلة شيئا فشيئا ،
تعلو الهمسات في دروب الغربة بنداء جهير:
عودوا..
ولو تأخرتم،
عودوا كما تعود السنابل إلى حقولها،
كما يعود الضوء إلى سماء الشتاء،
عودوا…
فالأرض لا تُشفى إلا بكم،
والبيوت لا تُضاء إلا بأهلها،
والوطن لا يُرمم إلا بقلوب تُحب ترابها وأجساد غاية أمانيها تُواري تحت ثراه.
ربما نحتاج أن نصبر،
أن نحزن،
أن ينفجر الوطن فينا باكيا ليغسل عار بعدنا وغربتنا حتى نولد فيه من جديد.
فمن الحطام تولد المدن السوامق ،
ومن تحت الرماد تنهض البيوت،
ومن الرجاء…
تُفتح الأبواب المغلقة.
الطاهر يونس