وفاة الناشط الإنساني الذي لم يتأخر عن نجدة المحتاجين في حادث سير ..
رحيل معز شريف.. انبل رجال الإنسانية
الموت يغيّب صاحب المبادرات
صوت الفقراء وسند الضعفاء
رجل جبر الخواطر يترجل تاركاً إرثاً من العطاء..
الموت يخطف معز ..ودموع الفقراء تروي سيرته..
الإنسانية تبكي فارس العطاء والمبادرات النبيلة
عاش للآخرين ورحل في طريق الخير
الكرامة : رحمة عبدالمنعم
في ظلال الحزن الذي خيّم على السودان اول امس الجمعة، وفي أجواء الشهر الكريم حيث تفيض القلوب بالدعاء والرحمة، غيّب الموت الناشط الإنساني معز محمد شريف، ذلك الرجل الذي لم يكن مجرد اسم في عالم العطاء، بل كان قصة متكاملة من النُبل والإحسان، رحل إثر حادث سير مفجع بالقرب من كوبري الحامداب الجديدة بمحلية الدبة، تاركاً خلفه إرثاً إنسانياً لن تمحوه الأيام، ودموعاً تساقطت بصدق من عيون الذين عرفوه، أو حتى أولئك الذين سمعوا عن مبادراته يوماً ما.
رجل مؤسسة
حين تتحدث عن معز محمد شريف، لا تتحدث عن فرد، بل عن مؤسسة قائمة بذاتها، لقد كان يطوف بين المحتاجين، لا يكل ولا يمل، باحثاً عن أرواح منهكة وقلوب ارهقها الحرمان، لم يكن مجرد فاعل خير يمد يده للعون، بل كان أباً وأخاً وملاذاً لكل من ضاقت به الحياة، اعتاد أن يجالس المشردين، يسألهم عن همومهم، ويمد لهم يد المساعدة التي لم يكن يملك منها سوى قلبه الكبير وإرادته التي لا تعرف المستحيل.
كان يجوب الشوارع، يبحث عن منكسري الخاطر، يقترب من المرضى، يمسح دموع الأيتام، ويعيد ترتيب حياة أسر لم يكن لها بعد الله إلا هو، لم يكن متبرعاً تقليدياً يكتفي بجمع المال وإرساله، بل كان حاضراً بكل تفاصيل عمله الإنساني، يجلس مع المشردين، يشرف على نظافتهم، يقص لهم أظافرهم، يحلق رؤوسهم، ويُلبسهم مما يملك، وكأنّ الله قد بعثه إليهم رحمة على هيئة إنسان.
دروب العطاء
لم يكن معز محمد شريف مجرد عابر سبيل في دروب العطاء، بل كان شعلة من نور تنير حياة البسطاء،كان يؤمن بأن الكرامة لا تتجزأ، وأن للفقير حقاً في أن يحيا بكرامة، وللمريض حقاً في أن يتداوى، وللمعاق حقاً في أن يتحرك بحرية ،لم يكن ينتظر أن تطرق الأبواب عليه، بل كان يخرج بنفسه، يبحث عن المحتاجين، يقرأ في عيونهم ما يعجزون عن قوله.
أطلق مبادرات عدة، كان أبرزها توفير الكراسي المتحركة للمعاقين، أولئك الذين قيدتهم الحياة ولم يجدوا من يحمل عنهم عبء الإعاقة،كان يفرح وكأنما مُنح الدنيا حين يرى أحدهم يتحرك بكرسي جديد، وكأنما استعاد جزءاً من حياته المسلوبة،لم يكن يتوقف عند ذلك، بل كان يمد يده لدعم الأسر الفقيرة، يتكفل بعلاج المرضى الذين لا يملكون ثمن الدواء، ويبحث عن سبل العيش لمن لا يجدون قوت يومهم.
لم يكن معز يملك ثروة، لكنه امتلك أثمن ما يمكن أن يُمنح لإنسان: قلباً نابضاً بالمحبة وعزيمة لا تلين، كان يناشد أهل الخير على صفحته في “فيسبوك”، يكتب كلمات بسيطة لكنها كانت كفيلة بتحريك الضمائر، كان صوته صوت المحتاج، وكان قلمه يخط هموم الفقراء دون أن يطلب لنفسه شيئاً، لم يكن يكلّ أو يملّ، حتى رحل وهو في طريقه نحو عمل خير آخر، وكأن الحياة لم ترد أن تمنحه لحظة راحة حتى في وداعه الأخير.
رحل معز، لكن مبادراته ستظل شاهدة على رجل لم يعش لنفسه، بل عاش للناس، فأحبه الناس وبكوه بقلوب يعتصرها الألم.
جبر الخواطر
لقد كان معز شريف ممن اختصهم الله بقضاء حوائج الناس، ممن يسيرون في الطرقات ليسألوا لا عن أنفسهم، بل عن الآخرين، رجل أدرك جيداً معنى “تبسمك في وجه أخيك صدقة”، فكانت ابتسامته دواءً لقلوب أنهكتها الأوجاع ،لم يكن يبحث عن شهرة أو منصب، ولم يكن عمله الإنساني يبتغي به إلا رضا الله.
ونعى الصحفي عبدالماجد عبدالحميد الفقيد بكلمات مؤثرة :”رحم الله معز فقد كان جابراً لخواطر أصحاب الحاجات وساعياً لقضاء حوائجهم.. رسم آلاف الابتسامات ولحظات الفرح الصادقة في دواخل الأطفال المعاقين ومن ابتلاهم الله بالسرطان من صغار السن ،قدّم الراحل تجربة إنسانية نبيلة.. أثبت معز أن الإنسان الفرد يمكن أن يقوم بدور مؤسسات كاملة، وقد كان هو كذلك.. رحم الله هذا الرجل الذي وضع بصمته الإنسانية ورحل إلى ربه في شهر رمضان المبارك.”
أما الإعلامي عزمي عبد الرازق، فقد قال:”الناس تقول نفسي نفسي، ولكنه معز شريف لم ينس الفضل بينه وبين المساكين ،نذر حياته لجانب الخير والحنو على الضعفاء، وربما عاش حياة قصيرة بحسابات الزمن، لكنها كانت حياة طيبة عامرة بالعمل الصالح.”
فراغ هائل
إن فقدان معز محمد شريف ليس مجرد رحيل شخص، بل فراغ هائل في مشهد الإنسانية في السودان. لقد كان شريان حياة للكثيرين، وكان عنواناً للرجل الذي لم يكن يملك سوى قلبه وعطائه، لكنه استطاع أن يكون أكثر نفعاً من مؤسسات وجمعيات ضخمة.
موته في شهر رمضان المبارك، وهو الذي أفنى حياته في خدمة الآخرين، قد يكون إشارة لمن أراد أن يتدبر،ترك خلفه ذكريات لا تُنسى، وأرواحاً ستظل تدعو له، وأيادٍ طالما مددها بالخير لكنها الآن ترتفع إلى السماء تسأل الله له الرحمة والمغفرة.
معز شريف لم يكن مجرد رجل عادي، كان رسالةً حية، درساً في الإنسانية، ورمزاً لروحٍ لا تموت حتى وإن غابت عن الأعين، رحمه الله، وجعل جنته مأواه، وألهم السودان رجالاً يحملون راية العطاء من بعده.