هناك فرق
مني أبوزيد
– الوجه الآخر للمنطق..!
“إدارة العدالة هي أمتن أركان الحكومة” .. جوج واشنطون ..!
يحكى أن أحد خلفاء الدولة الأموية في الأندلس قد أفطر – يوماً – عامداً في نهار رمضان، ولأن السبب كان جللاً يستوجب القضاء والكفارة في آنٍ معاً فقد أرسل في طلب فقيه البلاد حتى يستفتيه فيما يرى من أمر تلك الكفارة، لكن رأي الفقيه كان أقرب إلى الحكمة والفلسفة منه إلى الفتوى الشرعية القاطعة ..!
يومها قال فقيه المسلمين مخاطباً خليفتهم إن الحكم الشرعي على الفرد من عامة المسلمين في تلك المسألة هو عتق رقبة مؤمنة عن ذلك اليوم، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، فإن عجز عن ذلك فإطعام ستين مسكيناً، ولكن الحكم الخاص على أمير المؤمنين هو صيام شهرين متتابعين ..!
وعندما احتج الخليفة على ذلك التخصيص المرهق أخبره الفقيه أن العبرة من تلك الكفارة هو استشعار المشقة وليس من مشقة تذكر على خليفة المسلمين في عتق رقبة مؤمنة وهو الثري الذي يستطيع أن يعتق ألفاً دون أن يطرف له جفن أو ينقص له مال، وعليه فالعظة – هنا – تتحقق بالصوم الذي تكثر فيه المشقة بمكابدة الجوع والعطش، ويتساوى فيه الأمير والفقير ..!
في العقد الأخير من حكم الإنقاذ تصادف أن التشكيل الوزاري الجديد لولاية الخرطوم قد ضم بين مكلفيه وزيراً ثرياً قرر أن يتبرع بمخصصاته وراتبه الشهري لمساعدة الأطفال مجهولي الأبوين..!
البعض شكروا الرجل على موقفه ذاك بينما قلل البعض الآخر من حجم الموقف، وتساءل آخرون ماذا تفعل مخصصات الوزير أو راتبه لرجل أعمال ثري يمتلك عدة مشاريع رائدة..!
الزهد في المخصصات والرواتب ليس دليل عافية وزارية أو براءة سياسية، والحرص عليها ليس دليل إدانة دامغ، فراتب ومخصصات الحكومة ليست المقابل الوحيد الذي يحظى به كل من استوزر في حكومة..!
الذي قد يجنيه المسئول من استغلال نفوذه يبلغ أضعاف ما قد يجنيه من أموال مباشرة أو غير ذلك، فالحكم إذن على موقف الوزير المحسن بالمدح أو القدح لا ينبغي أن يكون بمعزل عن نسبية الموقف، تماماً مثل تفاوت الحكم الشرعي في حكاية الفقيه والأمير ..!
اليوم وبعد زوال حكم الإنقاذ وقيام ثورة ديسمبر اندلاع حرب أبريل وتشرذم السودانيين بين نازح ولاجيء ما يزال الحديث عن الفساد والمحسوبية والتجاوزات المالية والإدارية في بعض مؤسسات الحكومة الحالية قائماً..!
ربما لأن إساءة استخدام النفوذ السياسي والسلطة العامة لأهداف غير مشروعة سلوك سياسي ظل شائعاً ومسنداماً في بلادنا، والسبب – الطريف بعض الشيء – هو استحكام ظاهرة التنميط مع بعض مظاهر الفساد المالي والسياسي التي كان الشعب السوداني وما يزال يقابلها بمزيج من السخرية وطيب الخاطر..!
والنتيجة جملة أعراض سياسية مزمنة أهمها انعدام الشفافية وضعف مبدأ المسائلة المالية في المؤسسات العليا، وشيوع ثقافة الإيمان بأحقية المسئول السياسي في أموال الشعب التي يديرها إنابةً عن حركته المسلحة أو حزبه الحاكم..!
في الأيام الماضية “أثار اختيار ثلاثة أعضاء من العدل والمساواة في لجنة إعادة إعمار وتأهيل مشروع الجزيرة ومشروع الرهد وهيئة البحوث الزراعية جدلًا واسعًا”..!
الثلاثة الذين تم اختيارهم مزارعون ومُلاك أراضي زراعية في الجزيرة والمناقل، فضلاً عن اختيارهم لقيادة تنظيم المزارعين في آخر انتخابات..!
وكل هذا لا غبار عليه لولا أن تضارب المصالح وتنازع الاختصاص في هذا الموقف قد خلف رأياً عاماً هو أقرب إلى النطق بالحكم منه إلى النقد الموضوعي..!
فهل يستوجب مثل هذا الموقف أن تدفع حركة العدل والمساواة “كفارة امتيازات”، قياساً على ذات المنطق الذي استندت عليه الفتوى الصادرة بحق أمير المؤمنين في الحكاية أعلاه!.
munaabuzaid2@gmail.com