مؤتمر بريطانيا : خنجر دولي في خاصرة السيادة السودانية (2) السودان لن يُرسم في لندن… ولن يُدار من أبو ظبي! الفعالية “منصة سياسية” كرّمت ممولي الحرب وأقصت حراس السيادة

كبسولة وعي

مؤتمر بريطانيا : خنجر دولي في خاصرة السيادة السودانية (2)

السودان لن يُرسم في لندن… ولن يُدار من أبو ظبي!

الفعالية “منصة سياسية” كرّمت ممولي الحرب وأقصت حراس السيادة

الإمارات، المتهمة أمام محكمة العدل ظهرت في ثوب “المانح الإنساني”

كيف تحولت بريطانيا من راعية للسلام إلى مهندس لتغييب الحقيقة..

السودان يلحث عن منبر لا يُصادر سيادته تحت لافتة الشراكة الدولية..

صباح المكي

في الجزء الأول من هذا المقال، تناولنا مؤتمر لندن بوصفه لحظة فاصلة في مسار التواطؤ الدولي مع مشروع تدمير الدولة السودانية.
لم يكن المؤتمر كما زُعم محطة إنسانية، بل منصة سياسية كرّمت ممولي الحرب وأقصت حراس السيادة، ظهرت فيه الإمارات، المتهمة أمام محكمة العدل الدولية، في ثوب “المانح الإنساني”، بينما غُيبت الدولة السودانية وجيشها، وتم إسكات صوت الضحايا لصالح دبلوماسية جوفاء شرعنت الانقلاب على الشرعية، فصحنا كيف تحولت بريطانيا من راعية للسلام إلى مهندس لتغييب الحقيقة، وكيف ساوت ألمانيا بين جيش وطني ومليشيا متورطة في الإبادة، فيما التزمت فرنسا الصمت، وتواطأت كينيا وتشاد في دعم المليشيا وتلميع واجهاتها المدنية.
في هذا الجزء الثاني، ننتقل من تفكيك المشهد السياسي إلى تحليل مخرجات المؤتمر، خصوصاً “المسار المدني الثالث” الذي وُلد في كواليس السفارات لا من نبض الشارع. يُروج لهذا المسار شخصيات غير منتخبة، لا يعرفهم أحد، ولم يعرف لهم نضال سوى على منصات المؤتمرات الممولة. يقدمون أنفسهم كبديل مدني في انقلاب سياسي ناعم، يُدار من الخارج، ويُسوّق عبر منابر غربية بدعم خليجي أوروبي، بينما هو في جوهره مشروع لإعادة هندسة الدولة وفق مقاسات التحالفات لا إرادة الشعب.
هؤلاء لا يحملون مشروعاً وطنياً، بل ينفذون أجندات دول موّلت الحرب وكرّست الفوضى. أدوات ناعمة تتحرك بأوامر الخارج وتُستدعى لتوقيع اتفاقات لا تعني شيئاً لشعب تنزف دماؤه. قطاع كبير منهم باع نفسه مقابل حفنة دولارات ومقاعد في لجان صورية. لا يحملون رؤية، ولا مشروعاً للسلام، بل يسارعون لتقاسم الغنائم على أنقاض الدولة. تغييب الحكومة والقوات المسلحة وتهميش القوى الوطنية ليس خطأ بروتوكولياً بل خطة محكمة لإنتاج مشهد سياسي هجين تتحكم فيه واجهات فاقدة للشرعية.
انعقد مؤتمر لندن بشأن السودان في 15 أبريل 2025 تحت شعار معالجة الأزمة الإنسانية ودعم مسار السلام، إلا أنه سرعان ما تكشف عن كونه منصة سياسية مشوّهة، فشل المشاركون فيها في التوافق على بيان ختامي مشترك، نتيجة خلافات حادة بين بعض الدول العربية، وعلى رأسها الإمارات والسعودية ومصر، حول توصيف أطراف النزاع ومسؤولياتهم. ورغم الإعلان عن تعهدات مالية تجاوزت مليار دولار، قدمتها المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، غابت أي خطة سياسية متماسكة، ما حوّل المؤتمر إلى استعراض تضامني فاقد للفاعلية، بدلًا من أن يكون مبادرة جادة لإنهاء الحرب.
مثلت الإمارات نفسها في المؤتمر عبر مندوبتها السياسية لانا نسيبة، التي دعت إلى وقف إطلاق النار وتشكيل حكومة مدنية، بلغة دبلوماسية فضفاضة، في تجاهل تام للتقاريرو الأممية المسربة التي كشفت عن تورط أبوظبي في إرسال شحنات أسلحة إلى قوات الدعم السريع عبر الأراضي التشادية. وبالرغم من أن الحكومة السودانية رفعت دعوى رسمية ضد الإمارات أمام محكمة العدل الدولية بتهمة التواطؤ في الإبادة الجماعية بدارفور، فإن الإمارات أنكرت هذه الاتهامات علنًا.
وبحسب تسريبات إعلامية، أعرب الوفد الإماراتي عن انزعاجه من الصياغات الواردة في تقارير الأمم المتحدة التي تشير إلى أن “مساعدات أجنبية” وصلت إلى قوات الدعم السريع، واعتبر ذلك تهديدًا مباشرًا لصورة أبوظبي على المستوى الدولي. وقد مارست الإمارات ضغوطًا خلف الكواليس لتخفيف هذه العبارات أو حذفها بالكامل من أي وثيقة رسمية، وهو ما ساهم في عرقلة إصدار البيان الختامي.
وفي سياق موازٍ، تم استبعاد الحكومة السودانية الشرعية بالكامل من حضور المؤتمر، فيما مُنحت المنصات لدول متهمة بتمويل الحرب، ما أثار غضبًا في الخرطوم وانتقادات واسعة من منظمات حقوقية اعتبرت ذلك شرعنةً ضمنية للجريمة، وتغييبًا متعمدًا لصوت الضحايا. أما المبادرة المقترحة لتشكيل “مجموعة اتصال”، فقد سقطت بدورها نتيجة انقسام عربي حاد حول توصيف الأزمة والموقف من الجيش السوداني، مما أدى إلى شلل دبلوماسي كشف بوضوح عمق التباين بين من يدّعي الحياد ومن يواصل تقديم الغطاء السياسي للمليشيات.
في المحصلة في ظل هذا المشهد، لم يكن مؤتمر لندن خطوة نحو السلام، بل أداة لإعادة إنتاج الأزمة بوجه جديد، يستبعد الدولة، ويكافئ المتورطين، ويغلف التواطؤ والانحياز بشعارات إنسانية لا تخدع أحدًا. من قدّم الأدلة على الإبادة لن يقبل تبييض الجريمة ببيان دبلوماسي مأجور. ومن صمد في الميدان لن يخضع لوصاية من فرّ إلى الفنادق. السودان لا يُخضع، لا يُشترى، لا يُساوَم، ومن خان لا مكان له في مستقبله.
وإن غاب البيان الختامي، فلأن الحقيقة لم تعد قابلة للإخفاء : هناك من يسعى إلى فرض سلام مشروط يخدم مصالحه، وهناك من يستثمر في استمرار النزاع، بينما لا يزال السودان يبحث عن منبر حقيقي يُعبّر عن شعبه، لا يُقصيه باسم الإغاثة، ولا يُصادر سيادته تحت لافتة الشراكة الدولية.
ما لا يفهمه هؤلاء هو أن السودان تغيّر. لم يعد دولة تُدار من الخارج، ولا وطنًا تُرسم ملامحه في غرف مغلقة. الشعب اليوم هو الرقيب، وصوت الميدان أقوى من البيانات. السودان ليس دولة من ورق تُطوى بين تقارير المؤتمرات، ولا وطنًا طيّعًا يُدار من السفارات. السودان وطنٌ كتب اسمه بالدم، وصاغ دستوره على ركام الجراح، وصمد في وجه الحرب، والخيانة، والتواطؤ الدولي. السودان ليس دولة عابرة في جغرافيا الأزمات، بل وطن من نار وذاكرة. وطن تكتبه دماء الشهداء، لا بيانات المانحين. وطن ينهض من تحت الرماد كلما ظنّوا أنه مات، وحين يُقصى عن الطاولة، يفرض نفسه على الميدان.
السودان لا يُرسم في لندن ولا برلين. ولا باريس. وحتما. لن يدار من أبو ظبي.، بل يُصاغ من رحم صبر الخرطوم، من وجع الجنينة والفاش وكردفان، من مقاومة النيل الأزرق وجبال النوبة. والجزيرة، من بكاء أم شهيد، من يد مقاتل لا يحمل سلاحه دفاعًا عن حكومة، بل عن علم وتاريخ وهوية. هذا السودان لا يبحث عن فتات مساعدات، ولا يقايض كرامته على موائد المانحين. لا يُحكم بمن لم ينتخبه، ولا يُقاد بمن باعه. لا يُدار من هذه العواصم المتواطئة.، بل من ترابه، من نيله، من جباله، من جيشه، من شعبه، ومن نخبه الحرة. وإلى من ظن أن السودان قد أنهكته الحرب، وأنه سيركع تحت وطأة العزلة والضغط، نقول: من وقف في لاهاي ليحاكم القتلة، سيقف في لندن وكل مكان. ليفضح المتآمرين. من دافع عن أرضه بالسلاح، سيدافع عنها بالقلم، بالصوت، وبالوثيقة. من قُتل أهله في دارفور، لن يقبل أن يُقال له إن من قتلهم صار “مانحًا”.
هذه ليست مجرد دعوة للرفض، بل نداء للوعي الوطني. نداء لكل من ينبض فيه دم الكرامة والسيادة: إلى العسكري الذي يحرس الحدود، إلى المثقف الذي يكتب بالحبر المقاوم، إلى الإعلامي الذي يوثق الحقيقة، إلى المرأة التي صمدت حين سقطت الأنظمة، إلى المدني الذي لم يساوم على سيادته. قوموا… فالوطن يُكتب من جديد. قاوموا… فالمؤتمرات لا تصنع الأوطان، بل الشعوب. ارفضوا… فالصمت اليوم خيانة، والتواطؤ اليوم جريمة.
السودان لا يُباع، لا يُدار من الخارج، لا يُختزل في بيان ختامي، ولا يُعاد بناؤه ممن خانوه. بل يُبنى على أكتاف من حملوا رماده ليصنعوا منه وطنًا لا يشبه لندن… بل يشبه كرامتنا. ومن خان، لا مكان له في دفتر المستقبل.

وختاما، وباختصار مؤتمر لندن “قدة”، والتحيه لجنقو بريطانيا
عاش السودان حرا ابيا. .
bitalmakki@gmail.com