حاجب الدهشة
علم الدين عمر
السوداني كما هو… لا كما صار !!
..وهاهي معركة الكرامة تمضي في أمرها لتحرير أرض السودان من دنس المرتزقة وأشباه الساسة والخونة والطامعين ..يقيناً ستتحرر هذه الأرض المباركة ولكن التحدي في تحرير النفوس من قيد الطمع والحسد وأحاديث البطر والإدعاءات الفراغ ..
في عالم تتناقص فيه المساحات المشتركة بين البشر تصبح لحظات الصفاء الإنساني نادرة كوميض نجم في سماء مضطربة..مثل سماء السودان .. جلسة واحدة صادقة قد تفعل في النفس ما لا تفعله مؤسسات ورسائل معلبة مغلفة وقد تعيد ترتيب الدواخل وتبعث السؤال وتوقظ الحنين النائم على ضفة القلب.
كنا حول الطاولة نتحلق لا على طعام أو مشروع بل على المعنى جمعتنا نية التفاكر وفرقتنا التأملات في وطن لا يزال يختبرنا في الحب والخذلان.. الكاتب البديع الصديق حسين ملاسي الذي يكتب كما يغني الطين لحظة المطر… وعبدالعزيز البطل الكاتب والمفكر الذي عرفناه قبل أن نلتقيه بعقله الشفيف ولسانه المضمخ بذكاء السرد… والصديق الصحفي بابكر يحيى شاب نقي المعشر يعرف كيف يُنصت للحكاية دون أن يقاطع التاريخ… والزميل الإعلامي رفيق الأمسيات والنجم والمسا عماد البشري ..صوت إذا مر بأثير الوطن هز فينا وتر الحنين… والمهندس طارق حمزة رجل المروءة الهادئة وجه المجتمع الذي يلبس الوقار دون تكلف..كنا كما ينبغي أن يتفاكر ثلة من أهل السودان نحكي ونستعيد المشاهد والذكريات ..نلملم وجع الوطن كمن يرتق ثوباً ممزقاً بحذر العاشق لا خبرة الخياط وكانت اللغة حاضرة.. عميقة.. مهيبة..حتى صمتنا بدا كأنه صوت آخر لا يجيد تفسيره إلا من عرف أن الحزن يمكن أن يُروى بلا كلمة.
وفي لحظة ما إقترب منا شاب سعودي عابر توقف و أبتسم ثم قال:
“أنتم… حديثكم مرتب، وصمتكم مهيب وأدبكم جم وثقافتكم عالية… أنتم جميلون لكن الغريب أنكم لا تكونون هكذا إلا خارج بلادكم… لماذا؟ لماذا تتحولون إلى بشر آخرين في الداخل؟”
كان سؤاله بسيطاً مباغتاً مس فينا عمق الجرح المنوسر لم يكن لوماً بل دهشة محبة
قالها بحرارة من عرف السودانيين في المهجر وأحبنا كما نحن هناك ثم أردف:
“نحن نحبكم… لأنكم أهل للحب والخير.. أنتم شعب عظيم، لا يشبه أحد..
ثم مضى، تاركاً دمعة في أعيننا ورسالة محبة على الطاولة..
بقينا صامتين بعد رحيله لم نعلق لم نحلل فقط سكنت فينا الأسئلة ..كيف نبدو في أعين الآخرين بهذا الجمال.. ونتحول إلى كائنات باهتة، محبطة في أرضنا؟ كيف صارت بلادنا كأنها لا تعترف بنا إلا ونحن غرباء عنها؟
هل أخطأنا حين أحببنا الوطن بطريقتنا تلك؟ أم أنه الوطن من تعب من صبره علينا؟
ربما نحتاج دوماً إلى غريب يرى فينا ما نكاد ننساه أننا كما كنا.. شعب جدير بالحياة… فقط إن تواطأنا علي بلادنا بالحب.. لا بالجراح.