سجلوا مواقف وطنية عظيمة واستحقوا محبة السودانيبن
الفن في زمن الحرب..ثلاثية الصمود الوطني
أبو عركي البخيت: الصوت الثابت في زمن العواصف
عاطف السماني: الموسيقى كقوة معنوية في الحرب”
طه سليمان: العودة إلى شمبات بشجاعة بعد انتصار الجيش
الثلاثي قدموا نموذجًا للصمود والإبداع الوطني
الكرامة : رحمة عبدالمنعم
في أحلك اللحظات التي تمر بها الأوطان، تتكشف المعادن الأصيلة، وتبرز ملامح الانتماء الحقيقي بعيداً عن الشعارات الرنانة ،ومن بين أولئك الذين تجلّى حضورهم الوطني بوضوح في خضم الحرب التي تعصف بالسودان منذ أبريل 2023، يبرز ثلاثة من أعمدة الفن السوداني: أبو عركي البخيت، عاطف السماني، وطه سليمان، لقد شكّلت مواقفهم ومساراتهم خلال فترة الحرب مشاهد صادقة تنبض بالوطنية والتماهي مع نبض الشارع، وتؤكد أن للفن رسالة تتجاوز المتعة إلى التعبير عن الوجدان الجمعي، والوقوف في صف الشعب وجيشه في أوقات المحنة.
أبو عركي البخيت.. نغمة الصمود ..
ويمثل الفنان الكبير أبو عركي البخيت نموذجاً متفرداً للفنان الملتزم بقضايا وطنه ومجتمعه. فرغم اشتداد نيران الحرب في العاصمة، وتحديداً في أحياء أمدرمان الغربية، أصرّ أبو عركي على البقاء في منزله بحي العرضة، رافضًا الخروج إلى مناطق آمنة، ومفضلًا البقاء وسط أهله وجيرانه، يقاسمهم الخوف والرجاء.
في مايو 2024، قام الفريق أول ركن ياسر العطا، عضو مجلس السيادة الانتقالي، بزيارة خاصة لأبو عركي في منزله، تقديراً لموقفه الراسخ ووطنيته المشهودة. وقد جاءت هذه الزيارة تكريمًا معنويًا لفنان لم يغادر موقعه في الصفوف الأمامية للمواطنين، ليصبح صموده في وجه الحرب رمزاً ثقافيًا يعادل في دلالاته صمود المقاتلين في الميدان.
إن بقاء أبو عركي في قلب العاصمة المحاصرة لم يكن مجرّد قرار شخصي، بل تعبير عن فلسفة فنية وحياتية تؤمن بأن الفنان لا ينفصل عن قضايا مجتمعه، وأن الجمال لا ينهزم أمام الرصاص، بل يقاومه بالأغنية الصادقة والكلمة الحرة والموقف الثابت.
وفي يناير 2025م كان والي الخرطوم احمد عثمان حمزة، برفقة المدير العام لوزارة الثقافة والإعلام والسياحة، الطيب سعد الدين، في زيارة لبيت أبو عركي، المنزل الذي يقبع غربي استاد المريخ، شاهداً على عزيمة رجل لم يغادر داره منذ اندلاع الحرب. جدران البيت البسيطة احتضنت أحلامه ورفضه للنزوح، وشهدت حكايات من الصمود والصبر.
وقف الوالي مستمعاً إلى كلمات أبو عركي التي تقطر وطنية، وإلى رسائله التي خطّها في خضم المعاناة ،حيّا الوالي ثبات الفنان ومواقفه الراسخة، مؤكداً أن هذا الصمود هو امتداد لإرادة السودانيين الذين يواجهون الحرب بأمل وإصرار.
عاطف السماني.. صوت الفرح الميداني ..
أما الفنان عاطف السماني،أ فقد اظهر موقفاً وطنياً عظيماً في دعمه للقوات المسلحة السودانية خلال الحرب، لم يكن دعمه مجرد كلمات عابرة، بل كان حضوراً فاعلاً ومؤثراً. ففي قلب أم درمان، وقف شامخاً أمام الجنود، متغنياً لهم بأعذب الألحان، كأنما أراد أن يوصل رسالة واضحة بأن الفن يمكن أن يكون سلاحاً معنوياً يعزز الروح القتالية ويبعث الأمل في النفوس..
لم يقتصر دور عاطف السماني على الغناء فقط، بل امتد ليشمل زياراته المتكررة للتكايا ودعمه للمحتاجين في أصعب الظروف، لقد كان قريباً من الناس، متلمساً معاناتهم، ما يجعله نموذجاً للفنان الذي يرى أن رسالته الحقيقية تتجاوز حدود المسارح لتصل إلى ميادين النضال والتلاحم الشعبي
وفي وقت غادر فيه كثير من الفنانين البلاد، مفضلين الابتعاد عن المشهد المأساوي الذي تعيشه البلاد، بقي السماني متشبثاً بأرضه وشعبه، مؤكداً أن الوطنية ليست شعاراً يُرفع بل مواقف تُجسد وجوده وسط الناس يعكس شخصية الفنان الحقيقي الذي يعيش معاناتهم ويساهم في رفع معنوياتهم، راسماً بذلك صورة مشرقة للفن السوداني الذي كان ولا يزال مرتبطاً بقضايا الوطن والمجتمع
بهذا الموقف المشرف، يؤكد عاطف السماني أنه ليس مجرد صاحب صوت شجي، بل فنان يحمل رسالة وطنية وإنسانية سامية، فالفنان الحقيقي، كما قال أحد النقاد، هو من يستطيع أن يجعل فنه جسراً يصل به إلى قلوب الناس وواقعهم، وهو ما حققه السماني بكل اقتدار.
.
طه سليمان.. الفن رسالة بناء:
وحين تشتدّ المحن، تتجلى معادن الرجال، وتكتب المواقف سطور الوفاء في دفتر الزمن، هكذا كان حال الفنان طه سليمان، ابن شمبات البار، الذي رفض مغادرتها رغم دوي المدافع وتطاير الشظايا، صامداً وسط اهله وجيرانه، مشاركاً في آلامهم، صانعاً للأمل وسط الركام وقد غادر الحي. في منتصف ديسمبر 2023م و.لم يكن خروجه منها هروباً، بل كان انحناءة عابرٍ أمام عاصفة لا ترحم. حين اضطر طه سليمان إلى مغادرة شمبات، لم يكن ذلك خوفاً أو استسلاماً، بل كان قلب ابنٍ يخفق بقلق على والدته وسط مدينة أنهكها غبار الحرب وأطفأت نيرانها شموع الحياة. غادر مضطرًاً، لكنه ترك في شوارعها أثر خطواته، وفي مساجدها صدًى لصوته، وفي قلوب أهلها ذكرى رجل اختار الصمود حتى آخر لحظة.
واليوم، بعد أن استعادت الخرطوم نبضها بانتصارات الجيش، عاد طه إلى شمبات كما يعود الطائر إلى عشه، عاد إليها وفي عينيه حكايات صمود، وفي قلبه شوق لا تطفئه المسافات. لم يكن عائداً فقط، بل كان شاهداً على زمن الحرب، وعلى مدينة لم تغادره كما لم يغادرها أبدًا
ولم يكن طه سليمان مجرد فنان يمتلك صوتاً شجياً وألحاناً عذبة، بل أثبت أنه ابن الأرض التي نشأ فيها، لم يتخلَّ عنها في أحلك الظروف، وظلَّ يتنقل بين أزقتها وحواريها، يمد يد العون، يواسي القلوب المكلومة، ويبعث الدفء في ليالي الحرب ، لم يكن صموده مجرد قرار عابر، بل موقف رجل اختار أن يكون حيث ينتمي، حيث الجراح النازفة وحيث الحاجة إلى صوت لا يغني هذه المرة، بل يواسي ويبني.
لكن للظروف أحكامها، وكما قال يوم مغادرته في ديسمبر 2023: “مجبراً أخاك لا بطل”. لم يكن الرحيل عن شمبات خياراً، بل فرضته قسوة الحياة وانعدام الرعاية الصحية لوالدته، ليخرج طه وهو يترك قلبه معلقاً بين جدران البيوت المهدّمة، وينظر خلفه نظرة الوداع على المدينة التي صمد فيها تسعة أشهر تحت القصف.
وكما كان خروجه قاسياً، كانت عودته مشرقة بنور الانتصار. عاد طه سليمان إلى شمبات بعد أن استعادت الخرطوم عافيتها بانتصارات الجيش، وعادت الحياة تدبّ في شوارع المدينة التي عشقها. لم تكن عودته عادية، بل جاءت محملة بالرسائل، عودة تليق بفنان حمل همّ الوطن في قلبه، فكان أول ما فعله أن واصل دعمه لأبناء منطقته، مشاركاً في مشروع “نحن رجعنا”, تلك المبادرة التي تنفض عن المدينة غبار الحرب، تعيد إليها صوت الأذان في مساجدها، وتبعث الأمل في نفوس أهلها.
امعركة الوعي الوطني:
إن المواقف التي عبّر عنها هؤلاء الفنانون خلال الحرب لم تكن مجرد تفاعل عاطفي عابر، بل عكست إدراكًا عميقًا بأن للفن دوراً حيويًا في معركة الوعي، وفي تعزيز الروح المعنوية للمواطنين والمقاتلين على السواء ،لقد تجاوزوا حدود الأداء إلى التماهي مع القيم الوطنية الكبرى: الصمود، التكاتف، والعمل من أجل النصر.
في النهاية، فإن التجربة الفنية لأبو عركي البخيت، عاطف السماني، وطه سليمان في ظل الحرب السودانية، تصلح أن تُدرّس كنموذج للفن الملتزم، وتبرهن على أن المبدعين الحقيقيين لا يغادرون وطنهم في لحظات الشدة، بل يكونون في مقدمة صفوفه، يكتبون أغنياتهم بالمعاناة، ويغنون للغد الأفضل رغم دخان الحرب.