(الكرامة) تفتح الملف وتكشف مخاطر هيمنة الشركات الأجنبية..
النقل البحري فى السودان … تهديد الأمن القومي
“اسرار الجيش والمؤسسات الأمنية” تحت رحمة البواخر والاستخبارات الاجنبية
التلاعب فى مسارات الشحن يتسبب في خسائر فادحة للموانئ..
تجاهل الشركات الوطنية في موسم نقل الحجاج يثير الجدل..
“85 %” من تجارة السودان تاتي عبر شركات أجنبية ..
خبراء يحذرون من خطورة غياب ناقل وطني على الأمن القومي
القطاع الخاص يحمل مفاتيح استعادة السيادة البحرية..
شركة تاركو تمثل فرصة ضائعة للنهوض بالنقل البحري…
دعوات لتحديث التشريعات وتشجيع الاستثمار الوطني في القطاع البحري
خبير اقتصادي: امتلاك بواخر وسفن وحاويات عملاقة بات أمرًا ملحًا
الكرامة : رحمة عبدالمنعم
في الوقت الذي تُشكّل فيه الممرات البحرية شريانًا رئيسيًا للاقتصاد العالمي، حيث تُنقل عبرها قرابة (90%) من تجارة العالم، يعيش السودان حالة مأساوية من الانكشاف السيادي والاقتصادي، بعد أن تخلّى عن ذراعه البحرية، وأصبح معتمدًا بالكامل على شركات أجنبية تتولى نقل صادراته ووارداته، وتتحكم في حركة تجارته، بل وتطّلع على ما هو أعمق من ذلك: أسراره السيادية والعسكرية.
السفن الأجنبية:
وكشف خبراء ومختصون في قطاع النقل البحري لـ”الكرامة” أن السودان بات عرضة لاختراقات أمنية من قبل استخبارات السفن الأجنبية، إذ أصبحت كل شحنة تُصدّر أو تُستورد مرصودة من حيث الكمية والنوع والمصدر والوجهة، حتى إن المؤسسات السيادية، كوزارة الصحة، وجهاز المخابرات، ووزارة الأوقاف، ومجلس الوزراء، تعتمد على شركات أجنبية لإدارة عملياتها اللوجستية، ما أدى إلى تسرب معلومات حساسة، بعضها يخص القوات المسلحة والأجهزة الأمنية.
وفي ظل غياب ناقل وطني، أصبحت البيانات التجارية والعسكرية للبلاد متداولة بين أيدي أطراف أجنبية، في سابقة خطيرة، وتشير تقارير ميدانية إلى أن تأخير الشحنات أو التلاعب بمساراتها يؤدي إلى إفساد المواد المستوردة أو تعطيل الصادرات، مما يُكبد السودان خسائر فادحة، وسط صمت رسمي وغياب سياسات وطنية تنظم حركة التجارة البحرية وتحفظ الأمن القومي.
ومن أبرز شواهد تهميش الشركات الوطنية، ما حدث مؤخرًا في ملف نقل الحجاج، حيث مُنح الامتياز لشركة أجنبية رغم وجود شركات سودانية مؤهلة مثل “تاركو”، الأمر الذي اعتبره مراقبون تجاوزًا لمقتضيات السيادة، ورسالة سلبية تهز ثقة القطاع الوطني في وطنه، وتمنح الأفضلية لجهات خارجية على حساب الكفاءة المحلية.
الخطوط البحرية
وحتى نهاية عام 1989، كان السودان يمتلك أحد أكبر الأساطيل البحرية في إفريقيا والشرق الأوسط، من خلال “الخطوط البحرية السودانية”، التي كانت تضم 16 باخرة عابرة للمحيطات. لكن العقود الثلاثة التالية شهدت تفكيكًا متعمدًا لهذا الكيان، حتى تمت تصفيته رسميًا في عام 2017، في واحدة من أكبر ملفات الفساد التي أهدرت مليارات الدولارات من المال العام.
وفي عام 2020، قررت الحكومة الانتقالية إلغاء قرار التصفية، في محاولة متأخرة لإنقاذ ما تبقى من الشركة. ومع ذلك، لم يتغير الواقع الميداني كثيرًا، بسبب ضعف البنية التحتية، وانعدام التمويل، واستمرار تهميش الشركات الوطنية في عقود النقل البحري.
ورغم أن البحر يمثل بوابة أكثر من 85% من صادرات وواردات السودان، إلا أن البلاد لا تملك اليوم ناقلًا وطنيًا واحدًا يُعتمد عليه، ما يجعل القرار الاقتصادي السوداني مرهونًا بإرادة الشركات الأجنبية التي تحتكر حركة الترانزيت، وتتحكم في أسعار الشحن، ومواعيد الوصول والمغادرة، وحتى نوع الحاويات والمعدات المستخدمة.
القطاع الخاص
ويؤكد الخبير الاقتصادي الدكتور هيثم محمد فتحي أن النقل البحري يمثل شريانًا حيويًا للتجارة العالمية، إذ تُنقل عبره نحو 90% من حجم التجارة الدولية. ويشدّد على أن السودان بحاجة ماسّة إلى تأسيس شركات وطنية تابعة للقطاع الخاص تعمل في مجالات النقل البحري، سواء في الشحن أو نقل الركاب.
وأضاف فتحي في حديثه لـ”الكرامة” أن امتلاك بواخر وسفن وحاويات عملاقة بمختلف أحجامها بات أمرًا ملحًا، ليس فقط لأسباب اقتصادية، بل بوصفه قضية أمن قومي. وأوضح أن التقدم التكنولوجي في هذا المجال سرّع من وتيرة الشحن، مما يستدعي دعم الدولة لتسهيل دخول الشركات الوطنية، خاصة في القطاعات الحيوية كالبترول والغاز ومحركات الديزل.
وأشار إلى أن السودان يملك من المقومات ما يؤهله ليصبح مركزًا عالميًا للتجارة واللوجستيات، وهو ما يستوجب تطوير الموانئ، وزيادة عدد الأرصفة، وتعميق الممرات البحرية لاستيعاب السفن العملاقة، فضلًا عن تعزيز تجارة الترانزيت.
ودعا فتحي إلى تحديث التشريعات ووضع لوائح تنظيمية تضمن حرية المنافسة بين الشركات الوطنية، وتوفير التسهيلات الحكومية الداعمة للاستثمار في قطاع النقل البحري والخدمات اللوجستية، بما يسهم في دعم خطة التعافي الاقتصادي وزيادة الناتج المحلي الإجمالي.
فرصة للإنقاذ
وفي ظل هذا الواقع المقلق، تبرز الحاجة إلى دعم الشركات الوطنية القادرة على ملء الفراغ السيادي. وتأتي شركة “تاركو” كنموذج محلي يمكن البناء عليه لاستعادة السيادة البحرية، إذ تمتلك الشركة إمكانيات تشغيلية ونواقل حديثة، إلا أن الجهات الرسمية لم تمنحها ما تستحق من امتيازات وتشجيع، بل إن قرارات حديثة، كمنح نقل الحجاج لشركات أجنبية، أثارت سخطًا واسعًا لتجاهلها كفاءة وطنية مشهودة.
ويرى الخبير الاستراتيجي في قضايا الأمن القومي، الدكتور حسن عثمان، أن الاعتماد على الشركات الوطنية في قطاع النقل البحري لم يعد خيارًا اقتصاديًا فحسب، بل ضرورة أمنية وسيادية. وأوضح في حديثه لـ”الكرامة” أن تمكين النواقل الوطنية وتوسيع دورها في الصادرات والواردات يشكل خط الدفاع الأول عن سيادة السودان على البحر الأحمر.
وأضاف: لا يمكن الاستمرار في وضع تُكشف فيه بيانات الشحنات والبضائع لصالح شركات أجنبية قد ترتبط بمصالح استخباراتية لجهات خارجية، ودعا إلى توجيه السياسات الحكومية لتفضيل الشركات الوطنية في العقود البحرية، وتقديم الدعم الفني والمالي واللوجستي اللازم لها، حتى تصبح قادرة على المنافسة واستعادة القرار البحري الوطني من قبضة الخارج.