كبسولة وعي
صباح المكي
هندسة الإدراك في زمن الحرب..
من تزييف الواقع إلى تزييف الإدراك:
أدوات الحرب الإعلامية ضد السودان (2)
*مقدمة: من تفكيك الرسالة إلى هندسة الإدراك*
مشروع لاحتلال الإنسان بإسكات صوته، وإضعاف مناعته المعرفية..
(….) هذه الشائعات تهدف إلى زعزعة الثقة فى المؤسسة العسكرية
إعادة عبارات مثل “الحل العسكري مستحيل” حتى تُصبح قناعة عامة..
في الجزء الأول، قمنا بتفكيك البنية السردية لمنظومة التضليل الإعلامي التي تُستخدم كسلاح هجومي ناعم في الحرب المركّبة ضد السودان.
لم يكن الهدف مجرّد تشويه للوقائع، بل إعادة إنتاجها ضمن إطار مفاهيمي مضلل، تُفرغ فيه الجرائم من معناها السياسي، ويُعاد توصيف العدوان الخارجي بعبارات مُخدّرة مثل “الحياد” و”المسار الثالث” و”الحل التفاوضي”.
لكن ما تناولناه هناك لم يتجاوز السطح السردي للمعركة — حيث تُختطف الكاميرا، وتُحرّف اللغة، وتُجمَّل الخيانة بمفردات “السلام”.
في هذا الجزء الثاني، نغوص أعمق في طبقات الحرب الإدراكية. لا يعود الأمر مجرد تزييف للرسائل، بل مشروع متكامل لاحتلال الإنسان من الداخل — عبر إسكات صوته، وإضعاف مناعته المعرفية، وزرع سرديات العدو داخل وجدانه، حتى يُعاد تعريف الوطنية نفسها بأنها “تطرف”، والمقاومة بأنها “مغامرة خاسرة”، والسيادة بأنها “تعنّت رجعي”.
إنها ليست معركة على الرأي… بل معركة على البنية التحتية للوعي، تُخاض بأدوات ناعمة، ولكنها أشد فتكًا من القصف والغزو.
________________________________________
*نظرية اللولب الصامت (Spiral of Silence): حين يُصادر الصوت الوطني دون طلقة واحدة*
صاغت الباحثة إليزابيث نويل–نيومان هذه النظرية لتفسير ظاهرة صمت الأفراد عندما يشعرون بأن رأيهم “غير شعبي”، خشية العزلة أو النبذ الاجتماعي. ومع الوقت، تتسع دائرة الصمت، وتُفرض سردية مهيمنة باعتبارها “الرأي العام”، حتى لو كانت مفروضة أو مصنوعة.
في السياق السوداني، لم يكن تراجع الأصوات الوطنية عن التعبير ناتجاً عن حياد، بل نتيجة بيئة إعلامية ملوّثة شنّت هجوماً رمزياً على كل من تمسك بالموقف السيادي: فمَن يقول “عدوان خارجي” يُتَّهَم “بالفلولية”، ومَن يدافع عن “الجيش الوطني” يُوصَم “بالكوزنة”، بينما يُقدَّم السكوت عن جرائم الميليشيا كعلامة “اتزان” زائف.
*أدوات التضليل في هذا السياق:*
• *تمثيل هش للرأي الوطني:* اختيار شخصيات ضعيفة أو غير مؤهلة للدفاع عن الدولة في البرامج الحوارية
• *تغييب القضايا السيادية الكبرى:* استبدال النقاش حول العدوان بتفاصيل وبنقاشات هامشية مثل الجدل حول العملة الجديدة: هل هي صالحة أم لا؟ أو استهداف الجيش يُصوَّر كجزء من “تفكيك دولة 56″، بدلًا من الإدانة الواضحة للعدوان.
• *التعتيم الانتقائي:* تجاهل الإنجازات العسكرية، مقابل تضخيم تغريدة مجهولة أو إشاعة سطحية
• *الشائعات كترهيب رمزي:*
“اِنقِسام داخل القيادة العليا بسبب خلافات حول إدارة الحرب”، أو “قادة في الجيش يبدون استعدادهم للتفاوض.” تُطلَق هذه الشائعات دون أي مصدر موثوق، وتُستخدم كأداة ترهيب نفسي تهدف إلى زعزعة الثقة بالمؤسسة العسكرية، وتخويف كل من يتمسك بالموقف السيادي.
اللولب الصامت لا يفسّر فقط تراجع الصوت الوطني، بل يكشف كيف تم تجريمه أخلاقيًا. إنه ليس اختفاءً طوعيًا، بل قمع رمزي ممنهج يهدف لتفريغ الفضاء العام من أي رواية وطنية، وتحويل الانسحاب إلى نمط إدراكي جماعي.
*نظرية الغرس الثقافي (Cultivation Theory): حين تتحوّل الأكاذيب إلى وعي مألوف*
طوّر جورج جيربنر هذه النظرية لتفسير كيف تُكرّر الرسائل الإعلامية الزائفة حتى تتحول إلى واقع ذهني لا يُساءَل، مهما كان زيفها. في الحالة السودانية، لم يُطلب من الناس تغيير مواقفهم مباشرة، بل جرى تكييف إدراكهم تدريجيًا عبر رسائل “محايدة ظاهريًا” تخدم أجندات خارجية.
*أدوات الغرس الإدراكي:*
• *النفايات المعلوماتية*: سيل من محتوى ترفيهي مشتّت يطغى على أخبار الانتصارات أو جرائم الميليشيا
• *التكرار الممنهج*:إعادة عبارات مثل “الحل العسكري مستحيل” حتى تُصبح قناعة عامة.
• *الاستطلاعات الزائفة* :تُظهر الرأي العام وكأنه يميل إلى “المسارات التوافقية”، مما يصنع شعورًا مزيفًا بالإجماع مثال نتائج تُظهر تراجع دعم الجيش، تُنشر عبر منصات ممولة.
• *تحليلات مغلّفة بالشائعات*:مثل “الجيش يبحث عن مخرج تفاوضي”، دون مصادر موثوقة.
*هندسة تدريجية للوعي وإعادة ترميز المفاهيم الوطنية*
هذه الرسائل لا تُقدَّم كتعليمات مباشرة، بل تتسلل في عباءة “الموضوعية”، عبر تغطيات ظاهرها متوازن، لكنها تعيد تشكيل الإدراك ببطء. الغرس الثقافي لا يقنعك، بل يُعيد برمجتك لتتقبّل مسارات محددة وكأنها الخيارات “المنطقية” الوحيدة: تُروَّج التهدئة كبديل عن الحقوق، والمساومة كبديل عن السيادة، والتنازل كنوع من الذكاء السياسي.
إنها ليست مجرد إعادة ترتيب للمعلومات، بل هندسة إدراكية تُعيد إنتاج الواقع داخل الذهن، بل عملية ناعمة تُعيد رسم حدود المقبول والمرفوض. يُقدَّم الدفاع عن السيادة كـ”تعنّت”، ويُصوَّر التمسك بالثوابت كـ”جمود”، بينما تُمنح الوطنية للخطاب المهادن. هكذا تُعاد صياغة المفاهيم الوطنية بمنطق الخصم، وتُزرع الروايات المعادية كخيار طبيعي في ذهن المواطن… دون أن يشعر. وكل ذلك يحدث دون إطلاق رصاصة واحدة.
_______________________________________
*غسيل الدماغ (Brainwashing): الاستلاب الناعم بصيغة التنوير*
غسيل الدماغ ليس مجرد خدعة نفسية عابرة، بل عملية معرفية–إعلامية معقّدة تهدف إلى تفكيك القناعات السابقة، وزرع قناعات بديلة تتماشى مع سردية خارجية — دون الحاجة إلى ترهيب أو عنف مباشر. هذه العملية لا تعتمد على آلية واحدة، بل تشكل نسيجاً معقداً يجمع بين صدمة الطلقة السحرية التي تخترق الوعي دون مقاومة، والتكرار الممنهج لنظرية الغرس الثقافي الذي يحول الأكاذيب إلى مسلمات، والإغراق المعلوماتي الذي يشل القدرة على التمييز عبر طوفان من المحتويات المشتتة، مع التلاعب بالسياق الذي يقدم صورة مزيفة للتوازن الإعلامي بينما يخفي في جوهره مخطط العدوان، لتشكل معاً منظومة متكاملة لغسل الأدمغة وإعادة تشكيل الوعي الجمعي.
في السياق السوداني، تجاوز التضليل حدود تزييف المعلومات، ليصل إلى مرحلة إعادة برمجة الهوية الوطنية. عبر منصات السوشيال ميديا، يُعاد تشكيل وعي جيل جديد يرى في ميليشيا الدعم السريع مستقبلاً “واعداً”، وفي مؤسسات الدولة عبئاً قديماً، وفي التدخل الإماراتي بوابة “للحداثة”، وفي الرواية الدولية خلاصاً “حضارياً”.
*مظاهر غسيل الدماغ في الخطاب الإعلامي الحالي:*
• *الترغيب الخادع*: إظهار الميليشيا كـ”مكون واقعي” لا يمكن تجاوزه
• *الإغراق بالمعلومات*: تسريب تقارير وتحليلات مزيفة بكمّ هائل لتشويش البوصلة
• *إعادة تعريف القيم الوطنية*: المقاومة تُوصف بـ”الرجعية”، والسيادة تُقدَّم كـ”تعنّت”
غسيل الدماغ لا يطلب منك أن تُغيّر رأيك… بل يُعيد تشكيل الواقع من حولك. إنه لا يُقنعك بالحجة، بل يُعيد برمجة وعيك من الداخل، لتتبنّى — عن قناعة — أن التنازل هو الواقعية، وأن الصمت نوع من “الحكمة السياسية”، وأن التخلي عن الثوابت ضرورة “توافقية”.
_______________________________________
*خاتمة: من إسكات الصوت إلى إعادة ترميز الوعي*
لم يعد الهدف تزوير الواقع، بل إعادة برمجته من لم يعُد هدف العدو أن يُسكتك فقط… بل أن يجعلك تتحدث بلسانه.
في اللولب الصامت، جُرِّمت الوطنية نفسها، وتحول الدفاع عن السيادة إلى تهمة.
في الغرس الثقافي، زُرعت روايات الضعف كواقع مألوف يُعاد تكراره حتى يبدو وكأنه حقيقة.
وفي غسيل الدماغ، أُعيد تشكيل الوعي ليُقنع الفرد بأن التنازل “اعتدال”، وأن التخلي عن الثوابت “مرونة”، وأن المهادنة “حكمة”.
لم تعد المعركة تدور حول ما يُقال، بل حول كيف نُفكّر، ومن يُحدّد إحداثيات وعينا. ما يُنتَج في الفضاء الإعلامي اليوم لم يعُد رأيًا حرًّا، بل عملية ترميز ناعمة تُعاد فيها برمجة الواقع داخل الأذهان — ليصبح المواطن متقبلًا، لا فقط للخداع، بل للدفاع عمن خدعه، والهجوم على من يحميه.
لكن هذه الحرب الإدراكية لا تكتمل دون ثلاث أدوات رئيسية — أدوات لا تكتفي بالتضليل، بل تُربك الثقة، وتُعيد رسم خارطة الوعي:
• *سياسات الإلهاء:* تغمر العقل في طوفان من الترندات، والتفاهات، والجدالات المصطنعة لصرفه عن المعركة الأساسية.
• *الشائعات*: تُستخدم كقنابل إدراكية موقوتة، تنسف الثقة، وتربك الجبهة الداخلية، وتُبث في توقيتات محسوبة بعناية.
• *البروباغندا الرمادية،*: تُغلف خطاب الهدم بقوالب الحياد والتحليل، وتُزرع بأصوات محلية تُخفي الأجندة خلف اللهجة الوطنية.
في *الجزء الثالث* من هذه السلسلة، سنكشف هذه الأدوات في ميدانها العملي — من استوديوهات التضليل إلى خوارزميات المنصات، ومن المؤثر “المستقل” إلى الميم الموجّه، ومن التحليل الرمادي إلى التشويش الممنهج.
فهذه ليست معركة منشورات أو شعارات… بل معركة على الحق في الوعي نفسه.
الخطر لم يعُد في الرسالة… بل فيمن يتحكم في مسارها، ويُعيد ترميز من يتلقاها.
bitalmakki@gmail.com