كبسولة وعي الإعلام وأدواته كسلاح استراتيجي ضد السودان (5a) بين الاستوديو والخوارزمية: الإمارات وسيناريوهات هندسة الوعي!!

كبسولة وعي

الإعلام وأدواته كسلاح استراتيجي ضد السودان (5a)

بين الاستوديو والخوارزمية: الإمارات وسيناريوهات هندسة الوعي!!

تُطمس إنجازات الجيش في ضجيج إعلامي مصطنع، تغذّيه مؤتمرات مفبركة..

يُعاد توصيف الصراع كخلاف “طرفين متنازعين” بدلًا من كونه عدوانًا ممنهجًا…

الحرب في جوهرها غزو بالوكالة تنفّذه ميليشيا نظام أبوظبي..

في الأجزاء السابقة، تتبعنا تحوّل أدوات الإعلام من وسائل تفسير إلى آليات تفكيك ممنهجة. استعرضنا نظريات التأطير والغرس الثقافي، ورصدنا كيف استُهدفت السيادة والجيش السوداني عبر سرديات مضللة، من البروباغندا الرمادية إلى آليات الإلهاء وتفكيك الثقة.

نصل الآن إلى الطور الأخطر: حين تنتقل الحرب من الميدان إلى الاستوديو، ثم تُعاد برمجتها داخل خوارزميات ذكية تتحكم بالرؤية والانتشار والمحتوى. لم تعد الرسائل تُمرَّر عبر المذيعين فقط، بل تُشفّر ضمن بنى تقنية دقيقة تحدد ما يُرى، ومتى، ولمن.

في هذا الجزء، نُسلّط الضوء على المنصات الرقمية — مثل إنستغرام، فيسبوك، تيك توك، يوتيوب، وإكس — وكيف تحوّلت من فضاءات تواصل إلى أدوات هندسة إدراك، لا سيما حين تُدار إداريًا وتقنيًا من داخل دولة العدوان نفسها — الإمارات، التي لا تكتفي باحتضان المنصات، بل توظّفها لإعادة تشكيل الوعي الجمعي وفقًا لأجندتها.

*هسبارا نظام أبوظبي الوظيفي*

“الهسبارا” (Hasbara)، المصطلح العبري الذي يُترجم ظاهريًا إلى “الشرح”، هو في جوهره منظومة دعائية ابتكرتها إسرائيل منذ سبعينيات القرن الماضي، بهدف إعادة تشكيل الإدراك الجماعي بخطاب ناعم يُخفي واقع الاحتلال ويُقدّم المعتدي في ثوب الضحية.
ضمن هذه المنظومة، تُقدَّم جرائم الحرب كـ”دفاع عن النفس”، وتُؤطّر المقاومة كـ”إرهاب”، ويُعاد توصيف الصراع ليبدو كخلاف بين “طرفين متنازعين” بدلًا من كونه عدوانًا ممنهجًا.
ترتكز الهسبارا على أربع أدوات مركزية:
● *إعادة التأطير (Framing)*: عرض الجريمة كردّ فعل على تهديد.
● *المعادلة الأخلاقية الزائفة*: عندما يُصوَّر القاتل كضحية، ويُوصَف المقاوم بالإرهاب
● *تغليف العدوان بخطاب إنساني*: استخدام الثقافة والتكنولوجيا لتلميع صورة “مدنية” للمعتدي.
● *التضليل السردي*: إغراق النقاش بتفاصيل ثانوية تصرف الانتباه عن الجريمة الأصلية.
ومع صعود المنصات الرقمية، وسّعت إسرائيل نطاق هذا النموذج إلى الفضاء الإلكتروني، مستفيدة من نفوذها الإعلامي والسياسي في الغرب، وشرعية مصطنعة بوصفها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”. ورغم عدم وجود مكاتب رسمية لشركات مثل Meta وYouTube وX داخل إسرائيل، فإن تأثيرها على سياسات المحتوى — خاصة فيما يتعلق بفلسطين — واضح.

أما الإمارات، فقد تبنّت هذا النموذج بمرونة، وفعّلته داخل الفضاء العربي. فمن خلال استضافة المراكز الإقليمية لأكبر المنصات الرقمية في دبي وأبوظبي، لم تكتفِ بصياغة الرواية، بل أصبحت طرفًا فاعلًا في هندسة بيئة تداولها.
فهي تمارس نفوذها من الداخل، عبر أدوات تنظيمية وتقنية تمكّنها من تعديل الخوارزميات، توجيه الإشراف، والتحكم في الوصول إلى المحتوى بما يخدم مصالحها. لا تعيد صياغة الخطاب فحسب، بل تحدّد من يُسمع صوته، ولمن، وتحت أي شروط.

وهكذا، بينما تُعيد إسرائيل صياغة الجرائم من موقع الهيمنة، تُنفّذ الإمارات الدور نفسه من موقع “المقاول الأمني الإقليمي” — باستخدام الأدوات ذاتها، لكن لتوجيه الوعي العربي تحديدًا. اللوبي استُبدل بالمنصة، وبيان المتحدث الرسمي بخوارزميات الحذف والترويج..
وما يجمع الطرفين لا يقتصر على التطبيع السياسي، بل يمتد إلى شراكة معرفية في هندسة الإدراك، حيث يُعاد تعريف الجريمة وتُقدَّم كحل، ويُختطف الوعي قبل أن تُحتل الجغرافيا.

*الرسائل اللاواعية — الحرب النفسية في صيغتها الصامتة*

الرسائل اللاواعية (Subliminal Messaging)هي محفزات بصرية أو سمعية تُبثّ تحت عتبة الإدراك الواعي، بحيث لا يلتقطها المتلقي إدراكًا مباشرًا، لكنها تؤثر لاحقًا في مشاعره وسلوكياته دون أن يُدرك مصدر التأثير. تُستخدم هذه التقنية في الإعلان والدعاية السياسية لزرع أفكار أو انطباعات غير معلنة، عبر الصور والموسيقى والإيحاءات العابرة.

استُوحي هذا الأسلوب من تجارب علم النفس السلوكي، أبرزها تجربة جيمس فيكري(1957)، الذي زعم أن تمرير عبارات خاطفة مثل “اشرب الكوكاكولا” في عروض السينما، أدى إلى زيادة المبيعات. ورغم التشكيك اللاحق في نتائج تجربته، إلا أن الفكرة أثارت اهتمامًا واسعًا في أوساط الإعلان والسياسة على حد سواء.

سياسيًا، طُبِّقت هذه التقنية بشكل واضح في حملة ريتشارد نيكسون عام 1968، حين عُرض خصمه هامفري في مشاهد فوضى واضطراب، بينما ظهر نيكسون في لقطات هادئة وعائلية، لترسيخ صورة لاواعية مفادها: “الاستقرار = نيكسون”.

ولمن يبحث عن تجسيد درامي لهذه التقنية، يعرض فيلم Focus (2015) من بطولة ويل سميث مشهدًا بارعًا يُظهر كيف يمكن زرع فكرة داخل وعي شخص دون علمه، عبر تكرار رموز وأرقام في محيطه طيلة اليوم، ليظن لاحقًا أن اختياره حرّ، بينما هو في الحقيقة مبرمج لاشعوريًا لاتخاذ القرار ذاته.

شكّلت الهسبارا المدرسة الأم لهندسة الإدراك السياسي، من خلال التأطير والدعاية الناعمة. لكنها كانت أيضًا من أوائل من فعّلوا الرسائل اللاواعية كسلاح دعائي. لم تكتفِ إسرائيل بإعادة توصيف الاحتلال كـ”دفاع عن النفس”، بل سعت إلى زرع الخوف والتعاطف دون تصريح، من خلال سرديات بصرية مدروسة: أطفال إسرائيليون تحت القصف، صافرات إنذار، موسيقى درامية مشحونة — مقابل تغييب صور الضحايا الفلسطينيين، أو عرضها في سياقات فوضوية تنزع عنهم الطابع الإنساني.

الإمارات أعادت إنتاج هذا النموذج باتجاه الجمهور العربي: عبر مؤثّرين وبلغات محلية، ومن خلال منصات عربية، وباستخدام مؤثرات بصرية مدروسة. لم تكتفِ بالترويج لسرديتها، بل مارست دور الوكيل الدعائي، تزرع الانطباعات ذاتها داخل محتوى يبدو “ترفيهيًا” أو “إنسانيًا”، لكنه يُستهلك بلا مقاومة واعية.

الخطورة لا تكمن في مضمون الرسائل وحده، بل في تمريرها ضمن سياقات لا تُقرأ سياسيًا، ما يُحوّلها تدريجيًا إلى واقع إدراكي بديل — في ظل غياب إعلام وطني قادر على تفكيكها أو مواجهتها.

الخلاصة: الهسبارا زرعت الأداة، والإمارات فعّلتها على وعي العرب. الرسائل اللاواعية ليست مجرد دعاية ناعمة، بل أداة لاختطاف الإدراك.
ومع غياب الرواية الوطنية المضادة، تصبح هذه الرسائل “الحقيقة الوحيدة المتاحة” — لا لأنها أقنعت، بل لأنها وحدها التي وصلت.

ولهذا، فالمواجهة لا تبدأ بالصراخ، بل بالوعي: بتفكيك الصور، وكشف الرسائل، وتحليل كيف ولماذا صُمّم ما صُمّم — لا كما قُدّم، بل كما أُريد له أن يُفهم.

*التحكّم الرقمي في الإدراك*

بفضل نفوذها التنظيمي والتقني داخل المنصات الرقمية الكبرى، لم تعد الإمارات مجرّد ممول للسرديات، بل تحوّلت إلى مهندس مباشر للإدراك العام، خصوصًا في المشهدين العربي والسوداني. تجاوز دورها حدود التمويل والبث إلى التحكم في البنية التحتية للمنصة ذاتها: من توجيه الخوارزميات وآليات الحذف، إلى اختيار من يُسمح له بالظهور، وماذا يُقال، ولمن يُوجَّه.

تُمارَس هذه السيطرة عبر أدوات دقيقة: كخفض وصول المحتوى السوداني (shadow banning)، حذف التوثيقات تحت ذرائع “انتهاك المعايير”، وتثبيت ملصقات “تحقّق” على مشاهد حقيقية لإثارة الشك، مقابل ترويج روايات رمادية من قبيل “الطرفان مذنبان” و”لا حل عسكري” — لا لتحقيق التوازن، بل لنزع الشرعية عن الدولة وتقويض رمزية الجيش.
تتزامن هذه الهندسة الرقمية مع هجوم موازٍ على الوعي العام، حيث تُطمس إنجازات الجيش في ضجيج إعلامي مصطنع، تغذّيه مؤتمرات مفبركة، ومكوّنات مدنية هشة، ومسارات سياسية “ثالثة” تُقدَّم كخيارات توافقية بينما تضفي عمليًا شرعية على ميليشيا تورطت في مجازر موثقة.

التيكتوك، الذي تُدار عملياته من دبي، يُجسّد هذا النمط بوضوح: بثّ مقاطع عن “دمار السودان” دون تسمية الجناة، وتلميع صورة الميليشيا عبر مشاهد إغاثية مزيفة، مقابل قمع منهجي لشهادات الضحايا، وتصنيفها كمحتوى “عاطفي” أو “غير محايد”. في المقابل، تُحجب توثيقات انتصارات الجيش أو احتفالات المواطنين بها، وتُدفع للمقدمة مشاهد النزوح والبؤس لترسيخ صورة بلد منهار، لا امل وخارج عن السيطرة.

هذا ليس مجرد حجب، بل هندسة إدراكية مبرمجة — تُستبدل فيها الحقيقة بسرديات قابلة للتداول، ويُعاد تشكيل الإدراك الجمعي من خلال ما يُحذف لا ما يُقال. تتحوّل الخوارزمية إلى مخرج خفي، والمحتوى إلى أداة قصف ناعم، والمتلقي — عربيًا أو عالميًا — إلى هدف لتمويه منظم يطمس الجريمة ويشوّش الهوية السياسية للحدث.
العبارات الرمادية مثل “الطرفان
مذنبان” و”المسار الثالث” تُستخدم عمداً لإرباك المتلقي العربي، وإغراقه في ضبابٍ يعطّل الوعي ويمنع اتخاذ موقف. هكذا يُحرم السودان من التضامن الإقليمي، وتُفرغ قضيته من بعدها الأخلاقي والسيادي.

إنها عملية تمويه استراتيجية تُقدَّم فيها الحرب كصراع داخلي مبهم، بينما هي في جوهرها غزو بالوكالة تنفّذه ميليشيا نظام أبوظبي . ورغم فداحة الكارثة الإنسانية، تُقصى هذه الحرب من التغطية الدولية وتُدرج كـ”حرب منسية” — لا غفلةً، بل ضمن هندسة إعلامية واعية. في هذا النموذج، لا يصنع الصوت التأثير، بل بالصمت المصمَّم، حيث يُعاد تشكيل وعي المواطن خارج سياق الحقيقة، وبأدوات تقنية تختار ما يُقال، وتدفن ما يجب أن يُقال.

*فاصل ونواصل — القسم الثاني: من هندسة الخراب إلى هندسة الوعي… سيناريوهات الإمارات وأدوات المواجهة.*
*يتبع…*
bitalmakki@gmail.com