انطلقت الأفراح في الساحات واستعادت مدن الجزيرة بهجتها المسلوبة احتفالات التحرير ..مهرجانات حب واعياد

انطلقت الأفراح في الساحات واستعادت مدن الجزيرة بهجتها المسلوبة

احتفالات التحرير ..مهرجانات حب واعياد

الجيش يدخل مدن الحصاحيصا والهلالية والأهالي يستقبلونه بالطبول والزغاريد

زغاريد النصر تتعالى في في الهلالية وأهازيج التحرير تملأ الأفق

الحصاحيصا تخرج في مسيرات هادرة وتحتفل مع ابطال الجيش

دموع الفرح تعانق هتافات النصر في أحتفالات أهل الجزيرة

طابت الشيخ عبدالمحمود تنشد المدائح وتمبول تهتف للجيش

الهلالية وتمبول بين حزن الماضي وبهجة الانتصار

مدن الجزيرة المحررة تنتفض بالفرح وتودع كابوس الميليشيا

الكرامة : رحمة عبدالمنعم
في تلك اللحظات التي لامست فيها أقدام الجيش أرض الجزيرة، كانت الروح السودانية تعيد اكتشاف ذاتها من بين الركام والآلام، وكأن الفجر الذي تأخر كثيراً قد انبثق أخيراً في سماوات الحصاحيصا، طابت الشيخ عبدالمحمود، الهلالية، وتمبول، لم تكن هذه مجرد استعادة لمدن سيطر عليها الجنجويد ، بل كانت عودة للكرامة، ونشيداً للحرية التي أرهقتها العتمة.
خرج الناس من بيوتهم، من أزقة طالما خبأت في ظلالها الدموع المكبوتة، ومن حقول أكلت نيران الحرب ثمارها، ومن أسواقٍ كانت شاهدة على وحشيةٍ لا تعرف الرحمة، تعالت الهتافات، واندفعت النساء إلى الشوارع يطلقن الزغاريد التي غابت طويلًا عن هذه الأرض، بينما ارتفعت أصوات الرجال بنشيد الانتصار، صوت حمل في نبراته كل ما كتمته الصدور من حزن ومرارة طوال الأشهر الماضية ،الأطفال، أولئك الذين عرفوا الحرب قبل أن يعرفوا معنى الطفولة، قفزوا في الطرقات، يركضون ببراءة يستعيدونها بين أكتاف ابطال الجيش ووجوههم تضيئها بسمة لم تعرف طريقها إليهم منذ أن دنست الميليشيا أرضهم.

الزغاريد تعانق أنغام الطبول

في طابت الشيخ عبدالمحمود، حيث اعتاد الناس على أن تكون أصوات المدائح والذكر هي الموسيقى التي تملأ أفقهم، حمل يوم التحرير نغمةً أخرى، نغمة انتصار تناغمت فيها زغاريد النسوة مع ضربات الطبول وصوت “الطار” الذي ارتفع عالياً كما لو كان يحاول أن يطرد من المكان آخر بقايا الخوف ،خرجت الجموع من أعالي البلدة، مشياً وهرولة، بعضهم يرفع الرايات، وآخرون يحملون صوراً لشهداء سقطوا وهم يدافعون عن أرضهم، وكأنهم أرادوا أن يكونوا معهم في هذه اللحظة الفارقة.

كانت الأصوات تهتف باسم الجيش، تعلو مع كل خطوة يخطوها الجنود في دروب المنطقة، وفي أعين الأهالي امتزج الفرح بشيء من الدهشة، دهشة العودة إلى الحياة بعد كابوس طويل، دهشة رؤية شمس الحرية تشرق من جديد. لم يكن المشهد مجرد احتفال، بل كان طقسًا من طقوس استعادة الروح، حيث أُطفئت نار الخوف، واشتعلت في القلوب جذوة الأمل من جديد.

تعانق الدموع مع هتافات النصر

أما في الهلالية وتمبول، فلم يكن المشهد أقل حرارة، بل ربما كان أكثر احتداماً، فقد اجتمع في لحظة التحرير وجدانان متناقضان: الحزن والفرح.،سالت الدموع على الوجوه، لكنها لم تكن دموع مأساة، بل دموع انفراج، كأن الجدران التي أحاطت بالقلوب طوال الأشهر الماضية قد تهدمت أخيراً، وخرج منها المخزون الثقيل من الألم.
كان الناس في تلك اللحظة بين مرحب ومودع؛ يرحبون بالجيش الذي جاء لينتشلهم من براثن البطش، ويودعون مرحلة الظلم التي عاشوها، وكأنهم يريدون أن يطووا صفحة الماضي سريعاً، انطلق الرجال إلى مقدمة الصفوف، يهتفون بأعلى أصواتهم، يلوحون بالرايات، يعيدون ترديد شعارات الجيش، بينما النسوة يطلقن الزغاريد، وبعضهن يصفقن بحرارة، وكأن التصفيق هو الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الجسد التعبير عن الفرح العارم.
وفي خضم هذه الجموع، كان هنالك أولئك الذين لم يتمكنوا من الحراك، كبار في السن، جلسوا عند أبواب منازلهم، وعيونهم تفيض بدموع لا تحتاج إلى تفسير ،كانوا شهوداً على مأساة لم يكونوا يتخيلون أنهم سيعيشونها يوماً، وحين جاء الخلاص، لم يجدوا في الكلمات ما يعبر عن مشاعرهم، فتركت الدموع وحدها لتتحدث عن كل شيء.

ذاكرة الألم التي لا تُمحى
لم يكن الفرح بالتحرير فرحاً عادياً، بل كان فرحاً جاء بعد جرح عميق، جرح لم تكن الأيام كفيلة بأن تزيل آثاره بسهولة، فقد شهدت هذه المدن والقرى أبشع الجرائم على يد ميليشيا الدعم السريع من قتل ونهب وتشريد، إلى انتهاكات يندى لها جبين الإنسانية ،لم يكن هناك بيت إلا وكان لديه قصة عن ظلم وقع عليه، أو فقد عزيزاً غيبته رصاصات الغدر، أو عاش أياماً تحت تهديد السلاح، لا يعرف إن كان الصباح القادم سيحمل له الحياة أم الموت.

كان الأطفال الذين يركضون في الشوارع يوم التحرير، هم ذاتهم الذين قضوا لياليهم السابقة في المخابئ، يسمعون أصوات القصف ولا يعرفون متى ينتهي الرعب، وكانت النساء اللواتي أطلقن الزغاريد، هن ذاتهن اللواتي أُجبرن يوماً على الصمت خوفاً من بطش المعتدين، أما الرجال الذين صدحوا بهتافات النصر، فهم الذين عانوا قهرًاً لا يمكن وصفه، وكانوا ينتظرون لحظة كهذه ليقولوا للعالم إن الحق لا يُمحى وإن الظلم لا يدوم.

طرقات الحصاحيصا، وساحات طابت

رغم النشوة العارمة التي ملأت الأجواء، كان الجميع يدرك أن التحرير ليس نهاية المطاف، بل بدايته ،فالخراب الذي تركته الميليشيا يحتاج إلى جهد عظيم لإصلاحه، والقلوب التي أنهكتها الحرب تحتاج إلى زمن طويل لتستعيد عافيتها. لكن وسط كل ذلك، كان هناك يقين بأن الإرادة التي هزمت الميليشيا في الميدان، قادرة على أن تعيد بناء كل شيء.

اليوم، بين طرقات الحصاحيصا، وساحات طابت، وأزقة الهلالية، وشوارع تمبول، لم تعد أصوات الرصاص هي التي تملأ الأفق، بل أصوات الحياة، أصوات الأمل، أصوات شعب استعاد روحه، وأقسم أن لا يسمح لها بأن تُسرق منه مرة أخرى.