كبسولة وعي
خيوط المشروع الخطير، من مصانع السلاح في بلغاريا إلى مستودعات “إنترناشونال قولدن قروب”
إمارات سيقان الدجاجة : أداة حرب بالوكالة في مشروع دولي لتفكيك السودان (1)
(….) هذا ما تفعله الامارات تحت غطاء “السلام” و”الشراكة السياسية”..
هندسة عدوان سياسي وأمني واقتصادي يُدار بدماء السودانيين
ابوظبي تحولت من “شريك اقتصادي” إلى “مقاول دم يستورد المرتزقة
صباح المكي
في زمنٍ تُدار فيه الحروب بواجهات الدبلوماسية وتُباع فيه الأوطان في أسواق السلاح، لا يكفي أن نصغي إلى بيانات القلق أو نقرأ شعارات السلام. خلف الكواليس، هناك من يخطط، ويموّل، وينفّذ. وهذا المقال ليس استعراضًا للخطابات، بل كشفٌ لحقيقة ما يجري على الأرض: مشروع هندسي لتفكيك السودان، يتلطّى خلف “الانتقال المدني” و”الشراكة الدولية”، بينما اليد القاتلة تحمل توقيع الإمارات وشركائها في غرف القرار الغربي. في هذا المقال، نفتح ملف الدور الإماراتي في الحرب السودانية، ليس باعتباره مجرد طرف إقليمي، بل كأداة تنفيذ في مشروع دولي لتفكيك السودان تحت غطاء “السلام” و”الشراكة السياسية”. هنا، لا نروي سردية نزاع أهلي، بل نكشف هندسة عدوان سياسي وأمني واقتصادي يُدار بدماء السودانيين وبأقلام القوى الكبرى.
الواجهة المزيفة: سلام الشعارات وحقيقة الحرب بالوكالة
في الوقت الذي تواصل فيه الإمارات تسويق نفسها كوسيط سلام إقليمي، تتكشف حقائق مغايرة خلف واجهة الدبلوماسية المصقولة، وراء مؤتمرات المانحين وبيانات القلق الدولي، تتكشف ملامح مشروع تفكيك ممنهج، تُنفَّذ فيه الحرب بالوكالة وتُدار فيه الخرائط بالمال والسلاح، لا بإرادة الشعوب.
ما يجري في السودان ليس “نزاعًا أهليًا” كما يُسوَّق في الخطابات الدولية، بل هو مشروع هندسي سياسي واقتصادي مدفوع الأجر، يهدف إلى إعادة صياغة الدولة السودانية وتجريدها من أدوات قوتها وسيادتها، تحت غطاء “الانتقال المدني” و”الحكم التوافقي”. مشروع تنفذه ميدانيًا الإمارات كأداة مرتزقة، بينما تُدار خطوطه وتُرسم خرائطه في غرف القرار في باريس ولندن وواشنطن، وتغذّيه شركات السلاح الأوروبية، ويُبارَك بصمت أمريكي وغطاء من مؤسسات التمويل الدولي.
هذا المقال يتتبع خيوط هذا المشروع الخطير، من مصانع السلاح في بلغاريا إلى مستودعات “إنترناشونال قولدن قروب” في الإمارات، ومن بوابات حفتر في ليبيا إلى ميليشيا الدعم السريع في دارفور وأم درمان. يكشف كيف تحوّلت شعارات “السلام” إلى أداة لتبرير الفوضى، وكيف أصبحت “الشراكة الدولية” غطاءً ناعمًا لحرب قذرة تُدار بدماء السودانيين.
ووسط هذا المشهد، يفرض سؤالٌ نفسه: هل ما يُراد فرضه على السودان هو حقًا سلام… أم استعمار جديد يرتدي عباءة الدبلوماسية؟
مشروع هندسي للتفكيك: حين يصبح التواطؤ سياسة دولية
في عالم تُدار فيه الحروب بمزيج من الدبلوماسية والمرتزقة، وتُرسم فيه الخرائط بمداد الصفقات العسكرية لا بإرادة الشعوب، يقف السودان اليوم في قلب واحدة من أخطر عمليات التفكيك الممنهج — عملية تحمل توقيع غرف التخطيط في العواصم الكبرى وتُنفّذ بأدوات محلية مأجورة، تحت غطاء “العملية السياسية” و”السلام المستورد”.
ما يجري في السودان ليس نزاعًا أهليًا تقليديًا، بل مشروع هندسة سياسية متكاملة، تُستخدم فيه الحرب كسلاح لتفكيك مؤسسات الدولة وتجريدها من قرارها السيادي، وتفصيل مستقبلها على مقاس قوى الهيمنة الدولية. في هذا المشهد، لا تتقدم الدبابات، بل المؤتمرات وبيانات القلق، بينما تُرتكب الجريمة بوساطة أدوات إقليمية، في مقدمتها الإمارات التي اختارت أن تتحول من “شريك اقتصادي” إلى مقاول دم، يستورد المرتزقة ويسوّق الخراب بوصفه “حلًا سياسيًا”.
التحقيقات الدولية، وآخرها سلسلة تقارير “فرانس 24 – مراقبون”، تكشف هندسة دقيقة لحرب بالوكالة، تُدار بترخيص رسمي وتُغلف بلغة “الاستقرار”. لا تنكشف فقط شبكات السلاح، بل تتعرّى المنظومة بكاملها: من مصانع دوناريت في بلغاريا، إلى مستودعات إنترناشونال قولدن قروب في الإمارات، إلى بوابات حفتر في ليبيا، وصولًا إلى ميليشيا الدعم السريع في دارفور وأم درمان.
هنا يصبح التواطؤ سياسة دولية، ويغدو الحديث عن “العملية السياسية” مجرد قناع لاستعمار ناعم بأدوات عصرية: المال، السلاح، والمنصات الحقوقية المروّضة.
إنها الحقيقة العارية: السودان ليس ساحة حرب، بل حقل تجارب لمعادلات القوة الدولية الجديدة.
أبو ظبي المقاول: من شريك اقتصادي إلى أداة مرتزقة
لم تعد الإمارات دولة ذات مشروع أو رؤية إقليمية مستقلة، بل باتت نموذجًا مكتمل الأركان للدولة الوظيفية — أداة تنفيذ في مشاريع الهيمنة الدولية. خرجت أبو ظبي طوعًا من مربع السيادة إلى موقع “المقاول الأمني”، تؤجر الحروب، تصدّر المرتزقة، وتفتح مسارات الدم، بينما تتستر خلف خطاب دبلوماسي مُصطنع عن “الاستقرار” و”التنمية”.
في السودان، كما في اليمن وليبيا والصومال، يتكرر ذات الدور: هندسة التفكيك، تقويض الجيوش الوطنية، بناء شبكات ارتزاق، وشراء الولاءات لصالح ترتيبات تُصاغ خارج المنطقة. الإمارات لا تنخرط بجنودها — فهي ببساطة لا تملك قوة عسكرية حقيقية، ولا تملك أصلًا ما يكفي من الجنود — لكنها تتقن توفير أدوات القتل: المال، السلاح، والتخطيط، وتوكل مهمة التنفيذ إلى المرتزقة.
ما تمارسه أبو ظبي في السودان هو تصدير ممنهج للخراب المؤسسي. ليست طرفًا يسعى لحلول، بل لاعب يُتقن إدارة الفوضى والإبقاء على النزيف مفتوحًا لتبرير الحلول المستوردة. تُسوّق “مسارات سياسية” مفصلة لضمان إبقاء القرار السوداني مرتهنًا للخارج. لكن الجريمة في السودان أوسع من مجرد تكرار هذا النموذج. نحن أمام منظومة هندسية للصراع: دولة تنتج السلاح، وأخرى تموّل، وثالثة تنقل، ورابعة تمنح الغطاء السياسي، بينما تدفع الشعوب الثمن وحدها. وأبو ظبي في هذا التشكيل ليست سوى المسمار الحاد الذي ينفذ دون أن يخطط، وينفذ دون أن يملك حتى فهمًا للمآلات.
الإمارات كما وصفها الدكتور عزمى بشارة ليست سوىامبراطوريه على سيقان دجاجة أو بمعنى أصح “إمارات سيقان الدجاجة”—كيان هش، متورم بالمال والغطرسة، يتمايل فوق رمال وهم النفوذ، ويتوهّم امتلاك مركز قوة، بينما لا يعدو كونه أداة مأجورة تُستخدم عند الطلب وتُستبعد حين تتغيّر المعادلات. دولة بلا عمق ديموغرافي، بلا تاريخ سيادي، بلا مشروع وطني مستقل، تتحرك وفق خرائط مرسومة في غرف التخطيط الأمني للعواصم الكبرى: باريس، لندن، وواشنطن. تسوّق نفسها كقوة إقليمية، لكنها في الجوهر مجرد مخلب مرتزق في يد مشاريع الهيمنة في منظومة دولية تتقن تفويض القتل وتحرص على إبقاء يديها نظيفتين من دماء الحرب، يُستخدم لا لبسط النفوذ فحسب، بل لتفكيك الجغرافيا السياسية وإعادة هندسة الإقليم بما يخدم مراكز القرار في الغرب.
الإمارات تُجسد معادلة “الاستثمار في الفوضى” — حيث تختلط العقود بالدم، والدبلوماسية بالذخيرة، وتُسوّق الجريمة كـ”مشروع استقرار”.
هكذا تمارس أبو ظبي دورها: مقاول تفكيك، لا شريك استقرار.
الدبلوماسية والدم: السلاح كأداة لإعادة رسم الخرائط
في عالمٍ يتظاهر بالتحضّر وهو يبيع أدوات المجازر تحت شعارات “التحديث” و”الأمن”، يكشف تحقيق “فرانس 24 – مراقبون” الوجه الحقيقي لنظام دولي لم يعد يكتفي بالتواطؤ الصامت، بل أصبح شريكًا مباشرًا في الجرائم، يصدّر القتل بترخيص وتمويل، ويغطيه بواجهات دبلوماسية مصقولة.
هذا التحقيق لا يفضح مجرد صفقة سلاح، بل يقدّم وثيقة إدانة مكتملة الأركان لحرب بالوكالة مُخطط لها بعناية، تُدار عبر شبكة معقّدة من الدول والشركات. من بلغاريا إلى السودان، مرورًا بالإمارات وليبيا، نحن أمام منظومة متكاملة لهندسة صراع مدفوع الأجر، ترعاه قوى تحتمي خلف عباءة “الشرعية الدولية”.
القذائف البلغارية التي أمطرت أم درمان ودارفور لم تصل خلسة، بل شُحنت بتراخيص رسمية، ممهورة بشهادات “مستخدم نهائي”، عبر خطوط إمداد معبّدة من مصانع “دوناريت” في أوروبا الشرقية إلى مستودعات “إنترناشونال غولدن غروب” الإماراتية، ومنها إلى ميليشيا الدعم السريع عبر بوابات حفتر في ليبيا. ليست هذه مجرد تجارة سلاح، بل خطة ممنهجة لتحويل الذخيرة إلى أداة لإعادة رسم الخرائط السياسية وتفكيك الدول.
الحرب هنا ليست مواجهة عسكرية تقليدية، بل مشروع هندسي لإعادة تعريف الصراع بالوكالة: اتفاقات دولية معلنة، وشبكة مصالح تتشابك من وزارات الدفاع إلى ساحات النزوح، حيث كل قذيفة تسقط على مدرسة أو مخيم هي نتيجة مباشرة لعقود وصفقات مغلّفة بلغة “التعاون الأمني”.
المشكلة ليست في وجود الأسلحة بحد ذاتها، بل في المسار الكامل الذي شرعن تدفقها: من الترخيص الأوروبي، إلى التمويل الإماراتي، إلى التسليم المباشر لميليشيا متهمة بارتكاب جرائم إبادة. ما تكشفه الوثائق ليس ثغرة عابرة، بل جزء من تصميم مقصود لنظام عالمي مثقوب عمدًا كلما تعلّق الأمر بدول الجنوب.
فالرقابة الصارمة تُفرض فقط على من يهدد مصالح المركز الغربي، بينما تُفتح الأبواب مشرعة للقتل المنهجي حين تكون الضحية سودانية أو يمنية أو صومالية. وكل جريمة تجد طريقها إلى التبرير تحت شعار “إعادة الاستقرار”.
وخِتَامًا، ليست الإمارات وحدها في هذه الجريمة. صحيح أنها تتولى التنفيذ الميداني وتقوم بدور “المقاول الأمني”، لكنها تتحرك وفق خرائط مرسومة في عواصم القرار الغربي وتنفّذ صفقات مدفوعة الأجر بغطاء سياسي واقتصادي من أوروبا والولايات المتحدة. خلف الستار، هناك شبكة معقدة من الموردين والداعمين والشركاء الدوليين الذين يزخرفون الحرب بأوراق دبلوماسية ناعمة بينما يوقعون عقود السلاح ويصوغون بيانات “القلق الإنساني”.
في الجزء الثاني، نفتح هذا الملف المسكوت عنه: دور أوروبا وفرنسا، كيف تتحول صفقات السلاح إلى دماء تسيل في أسواق أم درمان وقرى دارفور، وكيف أُعيد تعريف السلام ليصبح أداة استعمار جديدة تسوّق نفسها بمسميات “الانتقال المدني” و”المسار التوافقي”.
bitalmakki@gmail.com