كبسولة وعي _هذه ليست حربًا بين جنرالين، بل بين مشروعين: أحدهما يسعى لتفكيك السودان، والآخر يقاوم لاستعادته_ السودان تحت غزو إماراتي – (3a)

كبسولة وعي
_هذه ليست حربًا بين جنرالين، بل بين مشروعين: أحدهما يسعى لتفكيك السودان، والآخر يقاوم لاستعادته_

السودان تحت غزو إماراتي – (3a)

الأدلة من الأسلحة إلى الشكاوى ،ومن شبكات التهريب إلى الدعم اللوجستي.

الإمارات اصطدمت بواقع غير متوقّع.. السودان ليس نسخة من ليبيا أو اليمن

*بقلم: صباح المكّي*

*الفصل الأول: من التضليل إلى المخطط*

في الفصول السابقة من هذه السلسلة، فككنا السردية المضللة التي تصف ما يجري في السودان بأنه “صراع داخلي بين جنرالين”، وأثبتنا، بالأدلة الميدانية والوثائق القانونية، أن ما يحدث هو غزو خارجي ممنهج، تقوده دولة الإمارات عبر ميليشيا مرتزقة، وبشبكة دعم إقليمي ودولي متكاملة.
في الجزء الأول، فضحنا زيف الرواية الإعلامية والدبلوماسية، وأعدنا تعريف الحرب بوصفها مشروعًا استعماريًا جديدًا. وفي الجزء الثاني، انتقلنا إلى الأدلة: من صور الأسلحة إلى الشكاوى الرسمية، ومن شبكات التهريب إلى خطوط الدعم اللوجستي.
لكن هذه الأدلة لم تكن إلا الواجهة السطحية لمخطط أعمق — مخطط وُضع أولًا على الورق، في خرائط ووثائق واستراتيجيات، قبل أن يُنفّذ على الأرض بالدم والنار.
وفي هذا الفصل من الجزء الثالث، نعود إلى الوراء خطوة لفهم الجذور الفكرية والاستراتيجية لهذا العدوان: من أين بدأت الفكرة؟ ولماذا السودان بالذات؟ وما السياق الذي صاغ هذه الحرب قبل أن تنفجر؟
إنها ليست حربًا عشوائية، بل مشروع هندسي دقيق… والمقاومة الحقيقية تبدأ من تفكيك بنية هذا المشروع وفهم أدواته.

*من بن غوريون إلى رايس: كيف صارت الفوضى أداة لتفكيك الشرق الأوسط؟*

مشروع تفكيك العالم العربي والإسلامي لم يكن عفويًا ولا وليد مرحلة راهنة، بل هو امتداد لعقيدة صهيونية استباقية بدأت مع ديفيد بن غوريون في خمسينيات القرن الماضي.
رأى بن غوريون أن أمن إسرائيل وتفوّقها لا يتحققان في محيط عربي قوي ومتماسك، بل في بيئة مفككة طائفيًا وعرقيًا، تعاني من هشاشة داخلية دائمة. الدول المستهدفة كانت بالأساس: السودان، العراق، وسوريا.
السودان، في هذا السياق، اعتُبر هدفًا استراتيجيًا نظرًا لموقعه الجغرافي الرابط بين المشرق العربي وعمق إفريقيا، ولاتساعه الجغرافي، وموارده الطبيعية، وصلته المباشرة بالأمن القومي المصري والعربي.
لاحقًا، جاء المستشرق البريطاني–الأمريكي برنارد لويس، من أصول يهودية، ليمنح هذا التصور بُعدًا أكاديميًا واستراتيجيًا غربيًا. في خطته الشهيرة، اقترح تقسيم الدول الإسلامية الكبرى إلى كيانات مذهبية وعرقية متناحرة، بهدف شلّ قدرتها الجيوسياسية، وضمان اختراقها وإعادة هندستها بما يخدم المشروع الأمريكي–الإسرائيلي.
كان لويس يرى أن “الفوضى الخلاقة” تمثل أداة مثالية لإحداث هذا التحول — تفجير النزاعات الداخلية بوسائل مخططة ومنهجية، لا لإسقاط الأنظمة فقط، بل لإعادة تشكيل الدولة والمجتمع معًا.
وقد تبنّت الولايات المتحدة هذا النموذج ضمن ما عُرف لاحقًا بـ Executive Intelligence Research Project، الذي طُرح عام 1983 أمام الكونغرس الأمريكي في جلسة سرية ، وتم تطويره داخل دوائر البنتاغون ليصبح مرجعًا طويل الأمد في هندسة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ورغم أن خطة لويس لم تُنشر رسميًا كوثيقة حكومية، إلا أن ملامحها تسربت لاحقًا عبر دراسات مثل *خطط تفتيت المنطقة*– _من مركز الكاشف للمتابعة والدراسات الاستراتيجية_ وتحقيقات صحفية، ، أبرزها مقال بعنوان:
*”The Bernard Lewis Plan: Setting the Arc of Crisis Aflame”*
نُشر في مجلة EIR 1995، وكشف نوايا إعادة تشكيل المنطقة الإسلامية عبر تفكيك الدول إعادة تشكيل المنطقة على أسس إثنية وطائفية تضمن التفوق الإسرائيلي واستدامة الهيمنة الغربية وفي الاتجاه نفسه.
ثم في 9 أبريل 2005، صرّحت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس لصحيفة واشنطن بوست أن واشنطن تسعى لتأسيس ما وصفته بـ “الشرق الأوسط الجديد”، تحت لافتة “نشر الديمقراطية”.
لم يُذكر مصطلح “الفوضى الخلاقة” حرفيًا، لكنه كان المضمون الحقيقي للسياسة الأمريكية الجديدة: تفكيك المنطقة سياسيًا ومجتمعيًا، وتقديم ذلك للعالم بلغة ناعمة تتحدث عن التنمية، الإصلاح، وحقوق الإنسان. وفي السياق ذاته، جاء مقال العقيد المتقاعد رالف بيترز *”حـدود الدم كيف يمكن للشرق الأوسط أن يبدو أفضل؟ “*، الذي نُشر في مجلة القوات المسلحة الأمريكية في يونيو 2006، ليعيد إحياء هذه الفكرة بشكل أكثر جرأة ووضوحًا ، ليرسم خريطة شرق أوسط جديد على أسس إثنية ومذهبية صريحة.
وباختصار، لم تكن “الفوضى الخلاقة” مجرد نظرية سياسية، بل أداة تنفيذ استراتيجية تهدف إلى تفكيك الوعي الجمعي، وإعادة تشكيل البنية الثقافية والسياسية في العالم العربي والإسلامي، تمهيدًا لإعادة هيكلة الجغرافيا بما يخدم التفوّق الإسرائيلي ويضمن استدامة الهيمنة الأمريكية.

*محمد بن زايد: الحاكم الوظيفي للغرب في مشروع تفكيك الشرق الأوسط*

في ظل العقيدة الغربية الممتدة لتفكيك الشرق الأوسط، لم يكن كافيًا رسم الخرائط وصياغة النظريات، بل تطلّب الأمر أدوات تنفيذ محلية: وكلاء قادرين على التمويل، والتسويق، والتنفيذ، دون أن يتحمّل الغرب كلفة سياسية مباشرة.
ومن هنا، يتّضح أن الخراب الذي يشهده السودان اليوم ليس لحظة عشوائية، بل نتيجة تَلاقي ثلاث قوى:
1. عقائد تفكيكية قديمة،
2. مصالح استعمارية متجددة،
3. وأدوات تنفيذ جديدة — في مقدّمتها محمد بن زايد.
لم يكن محمد بن زايد هو من صاغ هذا المشروع، لكنه تحوّل إلى الحاكم الوظيفي المثالي لتنفيذه. رجل اجتمعت فيه ثلاثية قاتلة:
• عقيدة سلطوية ترى في الدين خطرًا يجب ترويضه،
• طموح إقليمي يتجاوز بأشواط حدود “إمارته النفطية الصغيرة”،
• واستعداد كامل لأداء دور الأداة الطيّعة في مشروع الهيمنة الغربية.
ومن المفارقات أن محمد بن زايد، قبل التحاقه بأكاديمية “ساندهيرست” في الثمانينيات، كان منخرطًا في “جماعة الإصلاح” — الفرع المحلي للإخوان المسلمين في الإمارات. لكنه سرعان ما انقلب على هذا الإرث، وتبنّى نهجًا مضادًا يعادي الإسلام السياسي، ويقصي الدين من المجال العام، ويُعيد تشكيله كعنصر قابل للضبط الأمني.
تبلورت رؤيته في بناء منظومة سلطوية تُخضع الدين والمجتمع المدني بالكامل لرقابة الدولة:
• تجريم الخطاب المستقل،
• مصادرة المجال العام،
• تحويل الإعلام إلى أداة دعائية،
• وتفكيك كل بنية تهدد مركزية السلطة.
في مقاله التحقيقي الشهير *”The Dark Vision of M.B.Z for the Middle East”* (نيويورك تايمز – يناير 2020)، يكشف الصحفي روبرت ف. وورث معالم هذا المشروع من خلال مقابلات نادرة وتحليل معمّق، موضحًا كيف يسعى محمد بن زايد لإعادة صياغة العلاقة بين الدين والدولة، بحيث يُقصى الدين من الفضاء السياسي ويُختزل في طقوس لا تهدد بنية الحكم.
لكن الأخطر من العقيدة ذاتها، هو أنها وجدت رعاية غربية كاملة:
• حاكم مطيع،
• ممول سخي،
• يقدّم التدخل العسكري في ثوب “الوساطة”،
• ويُغلف القمع بشعارات “التنمية” و”الاستقرار”.
وهكذا، أصبحت الإمارات في عهد محمد بن زايد الذراع التنفيذية الأبرز لمشروع الفوضى الخلاقة، عبر تمويل وتسليح الميليشيات، تبييض التدخلات، وترويج مسارات سياسية تُقصي الدول المركزية، لتحويل ساحات مثل السودان، ليبيا، اليمن، والقرن الإفريقي إلى مختبرات حية لتفكيك الدول.

*السودان ليس نسخة مكررة من ليبيا أو اليمن*
في السودان، أعادت الإمارات تطبيق الوصفة ذاتها: ميليشيا مرتزقة، تمويل وتسليح، غطاء دبلوماسي، وآلة إعلامية تروّج لمسار بديل مفروض من الخارج.
لكن حسابات الإمارات اصطدمت بواقع غير متوقّع: غير أن السودان، بخلاف ليبيا واليمن، لم ينزلق بسلاسة إلى هذا المسار،
بل واجه المشروع بمقاومة عسكرية ومجتمعية كشفت هشاشته، وبدأ الوعي العام يتشكّل من جديد — ليفضح زيف “نموذج الاستقرار الإماراتي “رغم أدواته وخطابه.
لقد أثبت السودانيون، بمقاومتهم، أن هذا النموذج لا يصمد أمام شعوب تعرف تاريخها، وتدرك حدودها، وتتمسك بسيادتها.

*خاتمة الفصل الاول: من الخرائط إلى البنادق… ومن الفكرة إلى الجريمة*
تتبّعنا في هذا الفصل المسار الكامل:
من عقيدة بن غوريون، إلى خرائط لويس، إلى الاستراتيجية الأمريكية، وصولًا إلى محمد بن زايد كأداة تنفيذ جاهزة.
رأينا كيف تلاقت العقيدة بالصمت الدولي، والطموح الفردي بالدور الوظيفي، حتى وصلت الخرائط إلى بندقية المرتزقة.
لكن الخرائط وحدها لا تقتل… بل تحتاج إلى تمويل، وإلى أدوات، وإلى عالم يغضّ الطرف.
وهنا تبدأ فصول جديدة من القصة:
• كيف خرجت الإمارات من كيان وظيفي هشّ إلى مقاول تفكيك إقليمي؟
• كيف حوّلت المال إلى سلاح، والدبلوماسية إلى غطاء، والميليشيات إلى وكلاء؟
• وكيف أصبحت ساحات مثل السودان، اليمن، ليبيا، والقرن الإفريقي مختبرات حيّة لهذا النموذج الوظيفي الجديد؟
• وكيف تُغسل الجرائم بلغة “السلام” والدبلوماسية؟
في الفصل الثاني من الجزء الثالث: *_حين يصبح المال سلاحًا… والفوضى دولة،_*
نواصل تفكيك الأدوات التي جعلت من الإمارات الذراع التنفيذية الأخطر في مشروع تفكيك العالم العربي.

#كل_القوة_دارفور_جوه
#القوات_المسلحة_السودانية_تمثلني
#المجد _للبندقية
bitalmakki@gmail.com