سحر المذياع وعبق الذكريات الطاهر يونس…

سحر المذياع وعبق الذكريات

الطاهر يونس…

لقد هيّجت فينا بهذا المقال شجون الذكريات، وأيقظت في دواخلنا حنينًا دفينًا إلى زمن كان فيه للمذياع سحرٌ لا يُجارى وسلطان لا يُدانيه شيء. كان الأثير يسافر بنا إلى أماكن بعيدة لا نبلغها بخيل ولا ركاب، نحلق على أجنحة الصوت إلى عوالم متخيلة، نغترف من نهر الحكايات وننهل من معين الأخبار.

من قلب “هنا أم درمان” انطلقت الأصوات التي حفرت أسماءها في ذاكرة وطن — عمر الجزلي، ليلي المغربي -محاسن سيف الدين ،أسماء كانت لها في القلب مكان وفي الوجدان حضور.
ومن على ضفاف “هنا لندن”، كان ماجد سرحان وأيوب صديق يقرؤون علينا نشرة الأخبار بصوتٍ رخيم كأنما يأتينا من خلف ستار سميك من الضباب اللندني وشتائها البارد، لكننا كنا نسمعه وكأنه يهمس في أذني مزارع بسيط جالس على عنقريب مهتريء تحت ضوء القمر او السراج.
كان السكون يعم حين يتكلم المذياع فيتحلق الناس حوله كما يتحلقون حول قنديل في ليلة مظلمة في زمن لم تكن فيه وسائل الترفيه سوى قصص الأمهات وحكاوي الجدات ومواويل الغرباء.كان المذياع في ذالك الزمن الذي لون النقاء الفطريّ أيامه ولياليه نافذتنا إلى العالم، وبوابتنا إلى ما يدور في الخارج من عجائب وأحداث.
ومن بين تلك اللحظات المرتبطة بالمذياع ما زلت أذكر أولاد حسب القوي، فاكهة القرية ومصدر ضحكتها. كانوا لا يفوّتون نشرة الثامنة مساءً، فبالنسبة لهم كانت تلك النشرة بمثابة تجمع اسري علي ناصية قهوة حكواتي في احد ازقة القاهرة القديمة لما فيها من انس طازج وحكاوي لا تنقضي،
ففي احدي المساءات تلي المذيع في النشرة خبرا مفاده أن وزير المالية قد وقّع عقدًا بملايين الدولارات ، ليقفز إبراهيم متسائلا لمن حوله بدهشة طفل وفضول حكيم:
– “هو الوزير دا في روحو ميزانيتو كم؟!”
لم يمهله شقيقه طويلًا بل عاجله بإجابة لا تخلو من الذكاء الفطري والفكاهة العفوية:
– “انت من الصباح شايف الطباخ الجابو جارنا (أقرع ) للعرس دا جابو ليهو صينية أكل خصيصا قالوا دا أكل الطباخ ؟ماهو بشيل من كل حاجة قدامو حتة… ما هو الوزير كدا، كل عقد بشيل منو حتة!”
وانفجر الحضور ضاحكين… ضحكة صافية، صادقة، لا تعرف التصنّع كضحكة الأرض حين ترتوي بعد عطش.
ما بين سحر المذياع وسخرية القرية أزهرت ذكريات لا تنسى. لحظات بسيطة لكنها مليئة بالحياة والدهشة وانفعالات الروح تشهد على عبقرية الإنسان في تحويل أبسط التفاصيل إلى قصص تبقى وتعيش فينا رغم مرور الزمن… أو ربما بسببه.