كبسولة وعي “السودان تحت غزو إماراتي” : حين تُباع الخرائط بالدم، وتُغسل الجرائم بالدبلوماسية (2)

كبسولة وعي
“السودان تحت غزو إماراتي” :

حين تُباع الخرائط بالدم، وتُغسل الجرائم بالدبلوماسية (2)

_ليس نزاعًا أهليًا… بل غزو إماراتي بالوكالة_

أعادت “جريمة الصالحة” إلى الأذهان صورًا من أحلك فصول التاريخ…

“واشنطن بوست” اكدت الدور المحوري الذي تلعبه الإمارات في تمويل وتسليح الميليشيا

*بقلم: صباح المكّي*
*مقدمة*
في الجزء الأول من هذه السلسلة، فندنا السردية الإعلامية والدبلوماسية التي تروّج لوصف الحرب في السودان بأنها “صراع داخلي”، وأوضحنا كيف أن هذا التوصيف يمنح الغطاء لعدوان خارجي منظم تقوده ميليشيا مدعومة من دولة الإمارات. كما استندنا إلى مراجع قانونية وأكاديمية لإثبات أن ما يجري ليس حربًا أهلية، بل غزو بالوكالة ينتهك السيادة السودانية.

أما في هذا الجزء الثاني، نغادر تحليل الخطاب إلى عرض الأدلة الميدانية والجنائية، والتحقيقات الدولية، التي تكشف تورطًا ممنهجًا ومباشرًا لدولة الإمارات في إدارة وتسليح الحرب ضد السودان.

*الصالحة: المجزرة التي هزّت العالم وكشفت المستور*

في 26 أبريل 2025، صُدم العالم — وإن جاء رد فعله متأخرًا — أمام مشاهد مروّعة من حي الصالحة جنوب أم درمان، حيث نفّذت قوات الدعم السريع مذبحة جماعية بحق 31 مدنيًا، بينهم أطفال وكبار سن. الجريمة لم تقتصر على القتل، بل شملت التمثيل بالجثث وحرقها أمام الكاميرا، وسط هتافات عنصرية وضحكات عناصر الميليشيا، في استعراض فاق كل أشكال الوحشية.

ما يميز هذه المجزرة، إلى جانب وحشيتها، أنها جاءت موثقة بالكامل من قبل الجناة أنفسهم، وكأنها رسالة تحدٍ للعالم، تؤكد غياب الرادع والمساءلة.
وقد أعادت هذه الجريمة إلى الأذهان صورًا من أحلك فصول التاريخ: كمبوديا في زمن الخمير الحمر، واجتياحات المغول التي دمرت المدن فوق رؤوس ساكنيها — لكن الفارق أن هذه الفظائع حدثت في عصر القانون الدولي، وتحت أنظار العالم.

ومجزرة الصالحة لم تكن حالة استثنائية، بل واحدة من عشرات المجازر التي باتت تتكرر في كل منطقة تقع تحت سيطرة الدعم السريع، حيث يتحول الوجود العسكري للميليشيا إلى إعلان موت جماعي يستهدف البشر والمعالم والذاكرة الجماعية على حد سواء.

في 28 أبريل، نشرت صحيفة “واشنطن بوست” افتتاحية نادرة أدانت فيها هذه الفظائع، محذّرة من تكرار الخطأ الأميركي في الصمت على مجازر كمبوديا، وقد سلطت الصحيفة الضوء على الدور المحوري الذي تلعبه دولة الإمارات في تمويل وتسليح هذه الميليشيا، إلى جانب دول أخرى مثل ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان. كما أشارت إلى العلاقات الرسمية التي يحظى بها قائد الميليشيا، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في عواصم أفريقية عدة.

ورغم أهمية الإدانة، أخفقت الصحيفة في توصيف الصراع، حين أعادت تأطيره على أنه “صراع على السلطة بين جنرالين”، وهو توصيف سطحي يطمس حقيقة الحرب باعتبارها عدوانًا خارجيًا منظمًا تديره قوى إقليمية ودولية، وعلى رأسها الإمارات، عبر ميليشيات مرتزقة عابرة للحدود.

*من الشكوى إلى الفضيحة الدولية: الغزو الإماراتي في قبضة الأدلة*

مع تصاعد الجرائم الميدانية وتكشّف حجم الدعم الخارجي لقوات الدعم السريع، تحركت الحكومة السودانية على الساحة الدولية.

في يونيو 2024، قدّمت الخرطوم شكوى رسمية إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها الإمارات بتأجيج الحرب من خلال تزويد الميليشيا بالسلاح، والأموال، والمقاتلين الأجانب، في خرقٍ صارخ للقانون الدولي ولسيادة السودان.

ولم تكتفِ الحكومة بالاتهام السياسي المجرد، بل دعّمت ملفها في أكتوبر 2024 بأدلة ميدانية دامغة، شملت:

■ صورًا لمقاتلين من الدعم السريع أثناء تلقّي العلاج في مستشفى زايد العسكري بأبوظبي.

■ أسلحة وذخائر مضبوطة في ساحات القتال تحمل شعارات الجيش الإماراتي بوضوح.

وفي أبريل 2025، صعّدت الخرطوم موقفها القانوني، وقدّمت دعوى أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها الإمارات بشن عدوان غير مشروع، والمشاركة في جرائم حرب وإبادة جماعية عبر إدارة حرب بالوكالة.

*بين الأدلة الدامغة وتزييف السردية*

أكدت تحقيقات دولية وإعلامية موثقة صحة المزاعم السودانية بشأن تورط الإمارات في دعم قوات الدعم السريع، حيث كشف تقرير رويترز29 أبريل 2025 بعنوان:
Exclusive: UN panel investigates Emirati links to seized weapons in Darfur

أن فريق خبراء الأمم المتحدة يحقق في كيفية وصول قذائف هاون بلغارية صُدّرت للإمارات عام 2019 إلى قافلة للدعم السريع في دارفور، بعد أن طابقت أرقامها التسلسلية. وبينما أنكرت بلغاريا إصدار أي ترخيص لإعادة التصدير، برزت رحلات جوية مشبوهة من الإمارات إلى تشاد كخيط رئيسي في التحقيق. ومع ذلك، رفضت الإمارات تزويد الفريق الأممي ببيانات الشحن لـ15 رحلة، واكتفت بمعلومات جزئية عن ثلاث فقط، ما خلّف نصف الحمولة دون تفسير — وهو ما يعزز نمط التعتيم ويغذي الشبهات حول شحنات أسلحة سرّية.
وفي تقرير France24 Observers (أبريل 2025) بعنوان European Weapons in Sudan، كُشف عن مسارات تهريب السلاح إلى دارفور عبر ليبيا وتشاد بدعم لوجستي مباشر من الإمارات، بينما نشرت The Guardian (يوليو 2024) تقريرًا بعنوان Smoking Gun’ Evidence Points to UAE Involvement in Sudan Civil War يتضمن وثائق أُرسلت لمجلس الأمن وتكشف العثور على جوازات سفر إماراتية في حطام آلية تابعة للدعم السريع بأم درمان — مؤشر على وجود ميداني سري.
وربط التقرير بين هذا الوجود وبين قنابل حرارية وطائرات مسيّرة زُوّدت عبر قنوات الجيش الإماراتي، ما يُقوّض نفي أبوظبي ويثير دعوات للمساءلة. كما كشفت تحقيقات وتقارير كل من نيويورك تايمز وواشنطن بوست أن الدعم العسكري الإماراتي ما زال يتدفق إلى السودان رغم الحظر المفروض على دارفور، باعتباره جزءًا من سياسة ممنهجة لا ظرفية، تؤكد أن ما يجري ليس مجرد انحراف محدود أو تجاوز فردي، بل مسار استراتيجي مدعوم سياسيًا ولوجستيًا.

وقد وثّقت منظمات مثل العفو الدولية، وأطباء بلا حدود، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، النتائج الكارثية لهذا الدعم في تقارير مفصلة، تضمنت جرائم مروعة تشمل القتل الجماعي، والتطهير العرقي، والعنف الجنسي الممنهج، واستهداف المرافق المدنية. وتشير مجمل هذه الأدلة إلى تورط إماراتي مستمر ومتصاعد في حرب إبادة ممنهجة لا يمكن توصيفها باعتبارها نزاعًا داخليًا. الإصرار على هذا التوصيف لم يعد تقصيرًا تحليليًا، بل انحيازًا سياسيًا واعيًا، يستند إلى منظومة دولية تمنح الإمارات غطاءً دبلوماسيًا وإعلاميًا، وتُغض الطرف عن انتهاكاتها. هذا الصمت الغربي لا يبرّئ الفاعل، بل يفضح تواطؤًا يُسهّل استمرار الجرائم، ويعقّد فرص المساءلة الدولية.

والجدير بالذكر إن هذا النمط من تزييف السردية تكرر في ليبيا وسوريا واليمن، حيث غُلفت الحروب بالوكالة برداء الصراعات الأهلية، مما مكّن الإمارات وغيرها من إدارة حروب دون تكلفة سياسية.
ويؤكد تقرير مؤسسة جيمس تاون للدراسات (2023)، وهي مركز أبحاث مقره واشنطن تُعنى بقضايا الأمن الاستراتيجي والدفاع والاستخبارات على المستوى العالمي، بعنوان:
The United Arab Emirates’ Long-Term Goals in Syria: Managing Militant Proxies and Geopolitical Adversaries،
أن الإمارات طوّرت استراتيجية لإدارة وكلاء مسلحين كأداة للنفوذ الإقليمي، مع الحفاظ على واجهة دبلوماسية مخادعة توحي بعدم التورط — وهو ما يتكرر اليوم في السودان، حيث لا تقتصر الجريمة على الدعم العسكري، بل تشمل تزوير السردية أيضًا، ما يجعل من التضليل الإعلامي أداة تكميلية للعدوان، تُعطّل العدالة وتمنح الجناة غطاء الإفلات من العقاب.

*من الدعم الميداني إلى تنفيذ الخرائط الكبرى: الإمارات كأداة تفكيك إقليمي*

رغم أن الإمارات تُقدَّم كأبرز فاعل في الحرب على السودان، من حيث التمويل والتسليح والتنسيق الميداني، إلا أن حجم وتعقيد الصراع يتجاوز قدرتها كدولة محدودة الموارد. فالمسألة لا تقتصر على حرب بالوكالة، بل هي تنفيذ لخطة تفكيك إقليمية أشمل، تعيد رسم خرائط النفوذ، وتقسيم الدول، وإضعاف السيادة الوطنية، تحت شعارات خادعة مثل “السلام” و”الاستقرار”. ما يحدث يُعيد تفعيل مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، الذي صاغته مراكز القرار الغربية لتحويل العالم العربي والإسلامي إلى كيانات هشة ذات ولاءات خارجية، تخدم أمن إسرائيل وهيمنة القوى الكبرى. وهنا يبرز السؤال: هل نحن أمام طموحات إمارة خرجت عن حجمها، أم أمام أداة تنفّذ خريطة مرسومة مسبقًا؟

في هذا السياق، تؤدي الإمارات دور الذراع التنفيذية، تُفعّل المشروع عبر أدوات ناعمة وخشنة: المال، الإعلام، المرتزقة، والتحالفات العابرة للسيادة. وإذا كانت أبوظبي تضغط الزناد، فهناك من رسم المسار وحدد الأهداف بدقة. من اليمن إلى ليبيا إلى السودان، تتحرك خريطة الخراب نفسها بأدوات متغيرة وأهداف ثابتة.

في الجزء الثالث من هذه السلسلة، نكشف الخلفيات الفكرية والجيوسياسية لهذا المشروع، ونتتبع كيف تحوّلت الإمارات من كيان وظيفي تابع إلى ذراع ميدانية تنفّذ الخرائط النظرية على الأرض، من “الفوضى الخلاقة” إلى “الشرق الأوسط الجديد”، من غرف التخطيط إلى قرى دارفور، حيث تُدار المجازر اليوم، نتابع كيف أصبح السودان جزءًا مفصليًا في خريطة دموية… تُدار اليوم بعناوين السلام.

#بل_بس
#كل_القوة_دارفور_جوه
#القوات_المسلحة_السودانية_تمثلني
#الجيش_السوداني_يمثلني
bitalmakki@gmail.com