كبسولة وعي
الجميع يتسابق لنيل لقب “العميل المثالي”..
الجلبيّون الجدد: نخبة السودان بين العمالة والخيانة
في السودان، تتجسّد هذه الظاهرة في “أم قرون المهزومة” ذات الكدمول الأحمر
ثم يطل “ذو السَّفَه” — “عجوبة الخرّبت سوبا” — يتصدّر المشهد صارخًا من فوق أنقاض الدولة..
غارقون في مستنقع الخيانة، يتقافزون داخله كما يفعل الذباب في ‘برمة متقيّحة
وفي أقصى المشهد، تطل “ماتا هاري الإعلامية” — لتنفث سمومها ضد الجيش..
*صباح المكي*
وإن كان العراق قد ابتُلي بأحمد الجلبي — ذاك الذي قدّم نفسه للولايات المتحدة بوصفه البوابة المثالية لـ”تحرير العراق”، وتباهى بدوره في تمرير “قانون تحرير العراق” عام 1998، ثم ابتدع سياسة “اجتثاث البعث” التي أجهزت على مؤسسات الدولة وفكّكت الجيش — فإن في السودان ألف ألف جلبي.
هنا، الجميع يتسابق لنيل لقب “العميل المثالي”، متبرّعًا بخريطة وطنٍ مقابل وعد دولاري أو تصريح دبلوماسي. لا يكتفون بالترويج لمشاريع التدخل، بل يعرضون السيادة الوطنية في سوق النخاسة، ويقايضون كرامة البلاد بعبارات مموّلة ومواقف مستوردة.
وما إن تقضي المصالح الدولية حاجتها منهم، حتى تلفظهم كما لفظت الجلبي نفسه حين جفّ ضرعه، فنبذته وشرّحته، وقدّمته للعالم قربانًا على مذبح النكران، وكبش فداء يغسل آثار الجريمة، بعد أن افتُضحت مسرحية أسلحة الدمار الشامل التي كتبوا نصّها ومثّلوها وروّجوا لها كذريعة للغزو، ثم أنكروها، وكأن الجريمة بلا شاهد، والوطن بلا ثمن، والمجرم بلا اسم.
*الجلبيّون الجدد*
وفي السودان، تتجسّد هذه الظاهرة في “أم قرون المهزومة” — ذات الكدمول الأحمر — التي خرجت تطالب مجلس الأمن بتطبيق الفصل السابع، وكأنها مندوبة انتداب من زمن الاستعمار. وصفت بلادها بـ”الدولة الفاشلة” و”خطر على جيرانها”، ودعت صراحة إلى تدخل دولي ضد شعبها، متجاوزة كل اعتبارات الوطنية والكرامة.
أما شقيقها، الذي لُقّب زورًا بـ”الصديق”، فلا يُعلم إن كان لا يزال منشغلًا بتهريب الذهب عبر أديس أبابا، لكن المؤكد أن الوطن في نظره لا يعدو كونه فرصة استثمارية قابلة للتفاوض.
وذاك “الفاضل”، الراقص البارع على كل ألحان الخراب، والذي يقتات على كل الموائد. لم يكتفِ بالإبلاغ عن مصنع الشفاء، بل تفاخر بفعلته وكأنها منقبة وطنية. لم يتخلّف عن أي نكبة مرّت بها البلاد، لكنه لا يملّ من الطعن في الجيش، والمطالبة بالارتماء في أحضان الخارج. هؤلاء جميعًا هم الطفيليات السياسية: غارقون في مستنقع الخيانة، يتقافزون داخله كما يفعل الذباب في ‘برمة متقيّحة’، حيث يتراكم العفن.
وفي الخلفية، يظهر المتحدث باسم “تقدّم، صمود، نزول، تراجع” — لا فرق، فالأسماء تتبدّل كما الحرباء — ليطالب بتفتيش السودان بتهمة “الأسلحة الكيميائية”، وينطق بثقة العميل الدولي، مهمته تسجيل الخراب، وإدانة وطنه.
وعلى ذات المسرح يطلّ علينا الأداة الطيّعة ومن قال فيه الشاعر:
يالشجر العوير الـلا قعر لا ثمار
يا عود الطرور الخوزق النجار
لا بتنفع سقف لا بتولع نار
ليشارك في أوركسترا الخراب ويسعى إلى عدم عودة السودان إلى الإتحاد الأفريقي. ويحاول جاهدًا فرض الحصار على السودان وتفعيل البند السابع. ويتحدث كمن احتسى ” شراب موية المطر من الفرح المعبّأ في زجاجات” وكلما استمعتُ إليه، أتذكّر كلمات الأغنية الشعبية: “حمدتي في المعسكر، حمدوك قالوا بسكر.” وهو في ذلك لا يقلُّ خبثًا عن السيد “مريسة”، الذي آثر الدراهم على الوطن، وباع بني جلدته ووطنه في لاهاي بثمنٍ بخس. كلاهما سامدون في سوق الخيانة، وهم في سكرتهم يعمهون؛ لا صَحوَ ولا ندم.
ثم يطل “ذو السَّفَه” — “عجوبة الخرّبت سوبا” — يتصدّر المشهد صارخًا من فوق أنقاض الدولة مطالبًا بـ”وقف إطلاق نار إنساني” وتفاوض، وكأنه يسعى لتثبيت الخراب لا لرفعه. يتبعه “العاري مان”، الذي اقترح — دون خجل — إعلان مناطق موبوءة بالكوليرا، لا كتحذير صحي، بل كرسالة سياسية لإقناع العالم أن السودان بلغ قاع الانهيار، وأن التدخل الدولي بات ضرورة “إنسانية”.
وفي أقصى المشهد، تطل “ماتا هاري الإعلامية” — التي نأمل أن تلقى ذات المصير المستحق — تنفث سمومها ضد الجيش، وتسوّق لروايات العدو حول “الأسلحة الكيميائية” من داخل منابر العدو نفسه. أما “جوز الست”، فلا أثر له، كعادته غائب عن كل مسؤولية، سائح في ملكوت الله، يتنقّل بين أوهام السياسة على ظهر “الفيل الأزرق”.
وتُستكمل اللوحة بـ”نقد المضلّل”، الذي رُخّص له السفر رغم تواطئه، محاطًا بطابور طويل من وجوه الخيانة: وجدي “الغير صالح”، وعمر الدقير صاحب بنشر “المجد للساتك”، و”ود الفكي”، الأشأم من طُويس، وغيرهم من “مصفّري الوطنية” و”مبيّضي الخيانة”، ومن تبقّى من جماعة “تأسيس” الخراب.
هذه النخبة التعيسة لا ترى الداخل، ولا تسمع نبض الشارع، بل ترنو إلى الخارج حيث الدولار، ودراهم الكفيل، وفتات موائد الناتو. ترفع شعارات حزبية جوفاء، لا وزن لها في وجدان الشعب، ولو خاضت انتخابات نزيهة، لما تجاوزت أصواتها حدود عائلتين. يسوّقون لأفكار لفظها التاريخ: الشيوعية التي ماتت في موسكو، البعث الذي انهار في بغداد ودمشق، والناصرية التي دُفنت في القاهرة. أما اليوم، فيروّجون للعلمانية في مجتمع يؤمن 95% من أفراده بالإسلام… عبث محض!
حزب الأمة، رغم تاريخه العريق، لا يزال يكرّر ذات الأخطاء القاتلة، متوهّمًا أن السودان ضيعة مهدوية موروثة. وكما سلّم عبد الله خليل السلطة للعسكر عام 1958، يواصل الحزب اليوم ذات المسار، محرضًا الخارج على الدولة.
أما الحزب الاتحادي، فتيهٌ بلا تمايز ولا وجهة، تتشابك فيه الأدوار والوجوه، والحفيد “السائح على ظهر الفيل الأزرق”، يظن أن السودان امتداد لضيعة ميرغنية لا دولة ذات سيادة. أحزاب ديناصورية خرجت من كتب مهترئة، تعيش على ركام تاريخ لا يصلح للحاضر، ولا يُبشّر بأي مستقبل.
*سوق نخاسة تحت لافتة “المدنية*”
هؤلاء الجلبيّون، جددًا وقدامى، لم يُجرّموا المليشيا، لم يسمّوها باسمها، ولم يدينوا جرائمها.
صافحوها، باركوها، وقّعوا معها اتفاقيات، ثم خرجوا على الناس يتحدثون باسم “التحوّل الديمقراطي”.
تحت لافتة “المدنية”، جعلوا من طعن الوطن حرفة، ومن اسمه مطيّة بلا عهد ولا تفويض.
تسلّلوا إلى المشهد عبر ثقوب التمويل الأجنبي، وارتقوا على أكتاف الثورة في لحظة غفلة من الوطن، ليعتلوا الواجهة بوقاحة الغاصب لا بأهلية المناضل.
راحوا يوزّعون دروس “المدنية” على من سقى الشوارع بدمه.
وحين تحدّثوا عن “السلام”، فإنما قصدوا سلامًا على طريقة نظام أبوظبي: يُحرَق السودان، ويُكافأ الجاني بمنبر دولي!
إنه سوق نخاسة سياسي، تُعرض فيه البلاد لمن يدفع أكثر. والعملة الوحيدة المقبولة: الانبطاح الكامل، والولاء المترجم، والانخراط في جوقة التبعية تحت لافتة “المدنية”.
*الخاتمة: خيانة النخب وسقوط الأقنعة*
لقد كشفت الحرب عن كل الوجوه، وأسقطت الأقنعة التي طالما تخفّت خلف شعارات “المدنية” و”السلام”. لم يعد هناك ما يُخفى: من صافحوا القتلة باسم التسامح، ومن تواطأوا مع مشاريع التدخل تحت عباءة “الشراكة”، ومن تاجروا بدماء الوطن ثم باعوه في مزاد الشعارات — انكشفت وجوههم للتاريخ كما تنكشف الجدران القديمة حين يسقط عنها الطلاء، فبان التشقّق، وظهر الزيف؛ لا مجد في الخلفية، ولا جوهر تحت الطلاء.
عرّاهم الزمن كما يُعرّي المطر سقفًا مهترئًا؛ فإذا بهم لا رجال دولة ولا أصحاب قضية، بل باعة وطنٍ يتخفّون تحت أردية المؤتمرات، وعرّابون لمزاد لا يعرف شرفًا ولا ذاكرة.
وها هم، حين انقطع عنهم خيط التحريك، تساقطوا كدمى خشبية فقدت مبرّر الحركة، لا صوت لهم ولا ظل؛ مجرد صدى لأصوات لا تخصهم، وعشّاق سلطة بوجوه ملوّنة، لا تُجيد سوى الانتحال المؤقت، والزيف الذي يتقشّر عند أول تماس بالحقيقة.
أما هذا الشعب — الذي جاع، وقاوم، وانكسر، ثم نهض — فقد ظلّ أوفى من كل شعاراتهم، وأصدق من كل مواثيقهم.
لم تغرِه المناصب، ولم تُسكته الفتن، ولم تُروّضه العواصم، لأنه لم يتلقَّ “دروس الوطنية” في الفنادق، بل كتبها تحت القصف.
وإن تكسّرت عليه السهام، وتكالبت عليه الخطوب، وتناوشته المؤامرات من كل حدبٍ وصوب، فهو لا يطلب وصاية نخبٍ فقدت البوصلة، ولا يستجدي إذن سفارات تكتب الخرائط بدلًا عنه، ولا يحتاج دروسًا مترجمة في “حب الوطن”.
هو وحده من يملك هذا الوطن، لا أولئك الذين اختزلوه في “مشروع ممول” أو “وظيفة أممية”.
وهو وحده من سيعيد بناءه — بدمه، بوعيه، وعناده الأصيل — دون المرتزقة، ودون سماسرة الخراب، دون نصائح السفراء، أو مواثيق الخنوع، ودون الجلبيّين الجدد.
هذا الشعب الذي صمد وحده، لن يُلدغ من ذات الجلبيّ مرتين.
هو من سيسمّي الخائن باسمه، والمليشيا بسلاحها، والمدني المتواطئ بصفته.
وهو، لا غيره، من سيكتب فجر السودان الجديد، على أنقاضهم، لا معهم.
#القوات_المسلحة_السودانية_تمثلني
bitalmakki@gmail.com