حديث السبت
يوسف عبدالمنان..
ماذا يحدث في نيالا الآن؟
الحصاد المر ودولة العطاوة
من أجل إرضاء “أم قرون” نُهبت البيوت، وتيتم الأطفال، وترملت النساء
#جنرال المقاومة الشعبية بالخرطوم في زيارة خارجية امتدت لسبعة أشهر..
دفعني الأخ البروفيسور عبد الله علي إبراهيم لتناول ما يحدث الآن في نيالا، وعبد الله كاتب بعين ثالثة ورئة رابعة، مشبع بالإبداع، رفد المكتبة السودانية بأكثر من عشرين كتابًا، وذلك ما عجز عنه أي كاتب آخر في البلاد، ولا يزال عطاء عبد الله اليومي يتدفق في نهر المعرفة بمقالات عميقة لم تعترها بعد أمراض الإعلام الجديد، الذي يمثل مسخًا مشوّهًا ولغته تنحدر بثقافة القارئ.
وبعين المثقف نظر البروفيسور لما يجري في نيالا، وأحسن بكاتب هذا المقال ظنًا لمعرفته بما يحدث في نيالا، التي تمثل ثاني أكبر مدينة من حيث عدد السكان في السودان بعد الخرطوم.
وتُعد نيالا مدينة حديثة من حيث المولد في دارفور مقارنة بالفاشر والجنينة وكتم. وتختلف الروايات عن سكان نيالا الأوائل: هل هي حاكورة لعرب البني هلبة؟ أم حاكورة لقبيلة خزام التي تعرضت لإبادة جماعية منذ مئات السنين على يد ذات هؤلاء الجنجويد وتحالف الأشرار الذي أباد سلطنتهم في منطقة نهر الجنيك شمال كتم؟ وهناك من يقول إن نيالا تمثل حاضرة لقبيلة الفور، وآخرون يقولون إنها عاصمة للداجو.
لكن نيالا كانت مدينة تجارية تضج بالحياة وتنبض بجمال الطبيعة، كانت تغشاها في اليوم الواحد ثلاث رحلات لشركات طيران تستخدم طائرات بسعة أربعمائة راكب، ويتلقى العلاج في مستشفياتها مرضى قادمون من تشاد وأفريقيا الوسطى. وكانت بها أكبر كتلة نقدية في البلاد بعد الخرطوم وكهرباء طوال ساعات اليوم، حتى غشاها ما غشاها من أعراض أمراض الجنجويد.
وبعبقرية بعض الوالغين الآن في دماء أهل السودان، تم تقسيم نيالا إلى محلية نيالا ومحلية نيالا شمال، إمعانًا في الفرز العرقي والتمييز، فجاء من البدو وسكنوا أرضًا غير أرضهم، وشمال نيالا نبتت من الأرض نبتة حرامًا أُطلق عليها زيفًا “أم القرى”.
اندلعت الحرب وسقطت الفرقة السادسة عشرة، وآل أمر نيالا أرضًا وسكانًا إلى الميليشيا التي طردت وسحلت وقتلت السكان على الهوية العرقية، وعند الجنجويد كل المجموعات السكانية من غير العرب لا يستحقون الحياة ويطلقون عليهم ازدراء واحتقارًا (الامبايات). ولكن العنصرية والقبلية لا تعرف الحدود، والآن تشرب نيالا من صديد العنصرية وتئن تحت وطأة القبلية.
2
دولة العطاوة، التي سعى حميدتي وبعض فلول حزب البعث داخل منظومة الدعم السريع لإقناع الرجل بأن السودان قد ضعف ووهن لحد بات في يده تأسيس “دولة العطاوة”، التي لا تستنكف مشيخات الخليج قيامها على أنقاض السودان القديم.
في مقالات جهيرة نشرتها صحيفة «الكرامة» وما قبل «الكرامة» رفعنا غطاء مشروع دولة العطاوة: من هم دعاته ومن هم رعاته؟ وكيف خصص حميدتي دارًا للعطاوة في قلب الخرطوم قبالة القيادة العامة للجيش، لا يدخلها إلا من يمتد نسله إلى جدهم عطية؟
كما قال الأستاذ علي محمود عبد الرسول، العطاوة يقال إن جدهم يدعى عطية وينتسب إليه ثلاث مجموعات قبلية فقط من جملة أكثر من خمسمائة قبيلة في السودان. القبائل الثلاث التي جدها عطية هي الرزيقات باعتبارهم ملاك المشروع الأصليين، وأبناء عمومتهم المسيرية في المرتبة الثانية، والحوازمة في المرتبة الثالثة. وما دونهم مجرد عمال يُستنفَرون للقتال مقابل إطلاق أيديهم لكسب المال الحرام عند أهل السودان والحلال عند العطاوة.
ومنهم أميون يعتبرون أموال أهل السودان (فئ) وغنائم حرب. ومن أجل إرضاء “أم قرون” نُهبت البيوت، وتيتم الأطفال، وترملت النساء.
والآن تحصد نيالا المر وتشرب من كأسٍ كان مزاجه جحيمًا منذ أن أحكمت الميليشيا سيطرتها على نيالا، وجاءت بشخصيات ومسخٍ مشوّه من أسفل المجتمع ونصّبتهم لإدارة مدينة على أنقاض مدينة هجرها أهلها ونعق بومها في واديها.
ظلت نيالا مدينة السجن الكبير، نقلت الميليشيا إليها آلاف المعتقلين من شباب وشيوخ من كل أنحاء البلاد وكل قبائلها، فاضت بهم سجون نيالا، واتخذت الميليشيا المدارس والمستشفيات مراكز للاعتقال. وما أن أرخى الليل سدوله على المدينة التي كانت مولعة بصهرها أبو عركي وبنتها عفاف الصادق حمد النيل وحفيّة بعمر إحساس، حتى أصبحت مدينة الصراخ والتوجع لمن يُحبس في المعتقلات القميئة.
وأشرف أبناء وعلماء الطب والفقه والإدارة والهندسة يفطرون بسياط الجلادين ويمسون تحت رحمة من قلوبهم منزوعة الرحمة. وإذا كانت نيالا اليوم هي السجن الكبير في الوطن الواسع، فإنها تمثل المثال لدولة العطاوة التي يحلم بها العنصريون من هؤلاء (الأشاوس).
قلنا دولة العطاوة لحمها وعظمها القبائل الثلاثة، فإن بقية مكونات حتى غرب السودان من القبائل العربية يتجرعون اليوم سُمًا قاتلًا. وقد هلك المئات من أبناء قبيلة البني هلبة التي لا تنتمي لعطية، وبالتالي حقوقها ثانوية مثلها مثل الآخرين، وكذلك التعايشة والفلاتة والقُمُر والهبانية وآخرون.
والأسبوع الماضي ألقت قوات النخبة من الرزيقات الماهرية، وهؤلاء يمثلون الصفوة في الدولة القريشية الجديدة، يقودون الدعم السريع ويمسكون بمفاصل المخابرات ولجنة ما يسمى بمحاربة الظواهر السالبة.
ألقت هذه القوات القبض الأسبوع الماضي على ضابط في الدعم السريع برتبة لواء خلا، وأوسعته ضربًا وتعذيبًا حتى بلغ بهم الاحتقار للآخرين أن تمت حلاقة شعر رأسه وبُثّ شريط قميء عن كيفية حلاقة اللواء خلا، مع الألفاظ البذيئة بحق قبيلة الفلاتة، التي حاربت مع آل دقلو في كل معاركهم والآن يحصدون ثمرة الانقياد الأعمى بلا بصيرة وراء آل دقلو هؤلاء.
وليت الأمر انتهى بالفلاتة والتعايشة والقُمُر، لكن طغيان آل دقلو وعشيرتهم الماهرية بلغ بهم حد الإسراف في قتل السجناء، الأمير عبد المنعم موسى الشوين مات في الفولة وهو أمير وناظر المسيرية الفلايتة (بالغُلب). والحسرة والأسى على ابنه الذي اعتقلته الميليشيا من الفولة وحملته على ظهر عربة تاتشر معصوب العينين حتى نيالا.
وبعد شهرين من الضرب والإهانة والجوع والحرمان من الدواء، مات موسى عبد المنعم الشوين، ومات من بعده الشهيد عبد الرحمن سالم من أبناء المسيرية، كان وزيرًا بغرب دارفور واعتقلته الميليشيا، وهناك تعرض للتعذيب الشديد والضرب بالسياط حتى كاد أن يفقد روحه أكثر من مرة.
وعندما أيقن قائد سجون ومعتقلات الميليشيا، حريكة موسى، بأن عبد الرحمن سالم بات أقرب إلى الموت من الحياة، أطلق سراحه ليموت قبل وصوله الفولة أو المجلد.
واختطفت الميليشيا الشيخ شيبون الضوي، وهو أمين الحركة الإسلامية في غرب كردفان لسنوات خلت، ورئيس لشورى المؤتمر الوطني لسنوات، وهو من رشح المقدم القرشي الذي يشرف على الاعتقالات الآن لمنصب المحافظ. ولكن لم يشفع تاريخ الرجل وسنه ولا قبيلته التي تقاتل حتى الآن من أجل مشروع آل دقلو، والآن يقبع شيبون في السجون بنيالا، كما يقبع المئات من أبناء المسيرية والحوازمة شركاء الدولة العطوية.
أما ما دون ذلك، فهم آلاف من أبناء السودان. ولو كانت لحكومتنا لسان يعبر عنها لمطالبة منظمات حقوق الإنسان بزيارة معتقلات الدعم السريع في نيالا، حيث تنتهك أي قيمة ويدوس آل دقلو على الأخلاق بأرجلهم. وبعد كل ذلك، يعتبر البعض نيالا هي “يثرب” دولة العطاوة التي تستحق أن يغشاها الناس عشية وضحاها.
3
منذ السابع من يناير الماضي، خرج الجنرال المتقاعد نصر الدين عوض الكريم، رئيس المقاومة الشعبية بولاية الخرطوم، ومعه ثلاثة من قيادات المقاومة الخرطومية في مأمورية وتكليف من الفريق البرهان كما قال الجنرال. ولم يعد الجنرال حتى اليوم.
في الأسبوع الماضي عاد أمين مال المقاومة الشعبية من القاهرة، وراجت أحاديث كثيرة في مجالس مدينة الخرطوم وتعددت الروايات عن مأمورية السبعة أشهر.
ولكن حتى لا نظلم الرجل، الذي بلغ من الكبر عتيًّا ورفعه البشير في سنوات حكمه إلى مرتبة الأمين العام لوزارة الدفاع وأسند إليه البرهان يوم ميلاد المقاومة الشعبية مهمة كبيرة في ولاية مهمة هي الخرطوم، اتصلت على الرجل هاتفيًا وسألته عن غيابه، وهل فعلا خرج دون عودة وفي عهدته أموال مليارية؟.
نفى الرجل أن يكون في ذمته مال، وقال إنه بتكليف من الفريق البرهان لمهمة رسمية، وبرفقته الفريق حقوقي منير هجو، وأمين مال المقاومة الشعبية غادر إلى القاهرة لجمع المال لصالح المقاومة الشعبية من رأس مال سوداني في القاهرة، إضافة إلى لقاء مسؤولين في الحكومة المصرية بعلم وترتيب السفير عماد عدوي.
قال لي : (انت جاي تحاسبني؟)
قلت له: لا يا سعادة الفريق، ولكن احترامًا وتقديرًا لك ومن أجل الحقيقة وحدها سألتك عن مأمورية امتدت لسبعة أشهر، وهل طوال هذه الأشهر تتحمل حكومة السودان نثريته وبدل مأموريته الجنرال نصر الدين؟ وكيف لرجل يفترض أن ينهض بمهمة الإسناد المدني لولاية الخرطوم باستنفار الأطباء للعمل تطوعًا في المستشفيات، واستنفار المهندسين وخريجي كليات الهندسة لمساعدة شركات الكهرباء في الصيانة والتأهيل وإزالة مخالفات (الجبادات)، وحشد القوى الشعبية لمساعدة ولاية الخرطوم؟
وما هو المردود المالي الذي جاء به أمين مال المقاومة الشعبية يحمله في حقائبه وحساباته المصرفية لدعم ولاية الخرطوم؟ أم هي مأمورية صفرية المردود؟
زعم قادة المقاومة الشعبية في الخرطوم أنها ثمرة لتوجيهات البرهان، الذي لو بعث موظفًا في مأمورية تمتد لسبعة أشهر، فإنه يصبح مبددًا للمال العام من غير مكانه، وإذا كان الجنرال نصر الدين يمكث في القاهرة سبعة أشهر دون أن يسأله أحد، وهو يصرف نثرياته وراتبه من خزانة جبريل إبراهيم الخاوية من الجنيه والدولار، فإن هذه الدولة تصبح (هاملة) في غياب الرقابة الرسمية وفي غياب الرقابة الشعبية.
وإذا كان العمل يمضي دون أن يتأثر بغياب الجنرال نصر الدين لمدة سبعة أشهر، فإن هذا الجنرال يجب إعفاؤه اليوم قبل الغد.
والسؤال: ماذا يفعل والي الخرطوم، الذي نظريًا واسميا هو من أصدر قرار تعيين الفريق نصر الدين عوض الكريم في هذا المنصب؟
لكن الوالي – يقيني – إنه لا يعرف هذا الجنرال، ولكن هناك جهات عليا هي من أوعزت إليه بتعيينه، ولا يملك الوالي الآن سلطة إعفاء الجنرال الغائب لسبعة أشهر من موقعه المرموق.
وبهكذا تساهل، تُقتل المقاومة الشعبية خوفًا منها وإرضاء للقحّاتة ومن وراء القحّاتة.
والعدو يتربص بالسودان ويحشد قواته في كرب التوم ويعلن جهرا عن خطته لاجتياح الشمالية وحتى أم درمان التي خرج منها الجنجويد يجرجرون أرجلهم بعد سحقهم في أم بده الصالحة، فإن الميليشيا تتمركز الآن على بعد مائة كيلومتر من سوق ليبيا في رهيد النوبة ووادي المخنزر وأبو جداد، وهذا الوجود يشكل تهديدًا لأمن المواطنين في أم درمان، مما يتطلب حشد المستنفرين لسد الثغور ومساعدة الشرطة للقضاء على “تسعة طويلة”.
ولن يتأتى ذلك وجنرالات المقاومة الشعبية يقيمون في القاهرة لسبعة أشهر بذريعة حشد الدعم ولقاء المسؤولين المصريين، بينما المطلوب يعلمه الوالي أحمد عثمان حمزة الذي يعمل كجنرال بلا جيش، إلا الطيب سعد الدين وصديق فريني.