الإعلام وأدواته كسلاح استراتيجي ضد السودان (3) هندسة الشك وإعادة تشكيل الوعي: البروباغندا الرمادية كحصان طروادة إعلامي

كبسولة وعي
الإعلام وأدواته كسلاح استراتيجي ضد السودان (3)

هندسة الشك وإعادة تشكيل الوعي: البروباغندا الرمادية كحصان طروادة إعلامي

يقدم زعيم جماعة “البرّاء”، كرمز للتطرف، في محاولة لشيطنة التيارات الوطنية

أصبحت التسريبات وآراء المؤثرين مصادر شبه رسمية لهذه الاسباب…

*بقلم: صباح المكي*

مقظمة : البروباغندا الرمادية – حين يتخفّى التضليل في هيئة الحياد*

في زمن الحروب المركّبة، لم تعد السيطرة تتم بالسلاح، بل عبر إعادة تشكيل الوعي. المعركة لم تعد على الحقيقة، بل على معناها. العدو لا يقمعك، بل يُربكك بأدوات ناعمة: تحليلات رمادية وشعارات محايدة تُخفي الجريمة.

في هذه السلسلة، بدأنا بتفكيك الإعلام كسلاح استراتيجي ضد السودان، ثم انتقلنا إلى تحليل آليات إعادة ترميز الوعي الوطني، وخطابات التقسيم الرمزي، وصناعة الحياد كأداة لإسقاط الجبهة الوطنية. الآن، نصل إلى المرحلة الأعمق والأكثر خطورة: البروباغندا الرمادية. هذه الأخيرة ليست خطابًا، بل نظام ناعم لإرباك الإدراك. لا تُقنعك، بل تُفقدك الثقة في كل شيء؛ ولا تظهر كعدو، بل تتسلل في هيئة تحليل محايد أو تسريب مدروس. في السودان، يُعاد إنتاجها داخليًا بلهجة محلية، عبر صفحات مموّلة، وتقارير مغلّفة بالحياد، ومؤثرين يروّجون خطابًا مموّلًا بلغة مألوفة.

والنتيجة : انسحاب جماعي من الموقف، وانهيار بطيء في الثقة، وتفكك وطني لا يأتي من الرصاصة… بل من الشك.

*البروباغندا الرمادية: ألوانها وأدوات تغلغلها*

لفهم البروباغندا الرمادية، لا بد من معرفة بنيتها وألوانها. فهي تطور خبيث في تقنيات التأثير، يشوّش الحقيقة بدلًا من مواجهتها. تُصنّف إلى ثلاثة أنواع: البيضاء، والسوداء، والرمادية. البيضاء تصدر عن جهات معلنة كالحكومات ووسائل الإعلام الرسمية، وحتى لو كانت منحازة، فهي قابلة للنقد لأنها معلومة المصدر. أما السوداء، فتُطلق من منصات وهمية أو حسابات عدائية وتروّج لأكاذيب صريحة، وغالبًا ما يتعرّف الجمهور على عدائيتها. لكن الرمادية هي الأخطر، لأنها تأتي في هيئة تقارير مستقلة، أو تسريبات، أو تحليلات بلهجة محايدة؛ لا تبدو كدعاية، مما يجعلها أكثر قابلية للتصديق من أي خطاب رسمي.

البروباغندا الرمادية لا تقتحم الوعي، بل تتسلل إليه من النوافذ المفتوحة في المزاج العام، عبر أدوات تحمل اللهجة المحلية لكنها ممولة وموجهة خارجيًا. تُستخدم صفحات محلية مموّلة تُدار من الخارج بلهجة سودانية. وتُظهر هذه الصفحات خطابًا معاديًا للمؤسسات الوطنية، وكأنه “رأي من الشارع”. كما يجري تضخيم الصراعات الداخلية، مثل “الهامش والمركز”، أو “العلمانية مقابل التدين”، لإشعال نزاعات رمزية تُضعف الجبهة الوطنية. كذلك، تُنتج تقارير بغطاء حقوقي تصدر من منظمات أجنبية، تُحمّل الجيش وحده المسؤولية، وتتجاهل جرائم الميليشيا، وتعيد تأطير الوقائع سياسيًا لصالح رواية المعتدي.

تكمن خطورة البروباغندا الرمادية في أسلوبها، لا في مضمونها فقط. فهي لا تُقدَّم كدعاية، بل كتحليل أو تقرير موثوق ظاهريًا. تُستخدم تعبيرات مثل “تسريب من جهة مطلعة”، أو “ضابط منشق”، لبناء مصداقية وهمية دون مسؤولية. أما الواجهة الحقوقية، فتستعين بلغة إنسانية لتمرير سردية سياسية منحازة، مثل “الجيش يعرقل الانتقال” أو “الدولة في حالة فشل”، ما يُضعف الثقة بالمؤسسات. وجوه سودانية مألوفة تتحدث بلهجة محلية، تُعيد تدوير خطاب عدائي باسم النقد الذاتي أو الموضوعية. وتُطرح شعارات رمادية من نوع “كل الأطراف مذنبة”، أو “الجيش والدعم سواء”، لخلط الأوراق، وتفريغ الموقف الوطني من شرعيته الأخلاقية.

*البروباغندا الرمادية: اختراق العقيدة وتقويض الانتماء*

الهجوم الرمادي لا يتوقف عند السياسة، بل يمتد إلى الدين والثقافة والهوية. لا يُهاجم العقيدة صراحة، بل يُفرّغها تدريجيًا ويُعيد ترميزها في سياقات فكاهية، درامية، أو رقمية. يتم نزع القداسة عبر تشويه صورة الأئمة، وربط الدين بالنفاق والسلطة، وتقويض القيم باسم الحرية؛ فيُقدَّم الالتزام كقيد، ويُصوَّر الحجاب، لا كفريضة دينية، بل كرمز للتطرف أو للهيمنة الذكورية (male hegemony)، مما يحوّله من ممارسة روحية إلى تهمة ثقافية تُستخدم لنزع المشروعية عن الالتزام الديني ذاته. ويُعاد تأطير الدين ضمن ثنائيات مستوردة لا تمت لبيئته بصلة، كالصراع بين التدين والنسوية، أو بين الدين والحداثة، لا بهدف تطويره، بل لنسخه في صورة مشوّهة تُقصي جذوره وتُفرّغ معناه.

تُستخدم السخرية الناعمة لتحويل الدين إلى مادة للتهكم ، تُضعف الصلة بالشعائر دون مواجهة مباشرة. وفي سياق ممنهج لضرب الرموز المعاصرة والتاريخية، يُقدَّم القائد المصباح، زعيم جماعة “البرّاء”، كرمز للتطرف، في محاولة لشيطنة التيارات الوطنية الرافضة للهيمنة والميليشيات، ووصمها بالإرهاب. بالتوازي، تُستهدف رموز الاستقلال، ويُعاد تأطير دولة 1956 كنتاج نخبوي فاشل، في مسعى لهدم السردية الوطنية من جذورها وتجريد الأجيال الجديدة من أي مرجعية سياسية صلبة أو تاريخ نضالي جامع.

تُعيد الدراما صياغة الوعي، فيُصوَّر المتدين كمتشدد، واللاديني كبطل “تنويري”، مع تمرير أفكار تصطدم بالعادات والتقاليد والواقع الاجتماعي. لا بهدف تنقيتها أو تطويرها، بل لتحويلها إلى نسخة غربية مشوّهة تُقدَّم على أنها حداثة، بينما هي في جوهرها نفي للهوية وطمس للخصوصية الثقافية. ويُروَّج، في موازاة ذلك، لتديّن هجين، فردي ومنزوع الالتزام، يُفصل فيه الدين عن الجماعة والمرجعية والبعد الاجتماعي.

*لماذا تنجح البروباغندا الرمادية في السودان؟*

رغم تنوّع خلفيات السودانيين، إلا أن البروباغندا الرمادية تجد طريقها بسهولة داخل الوعي الجماعي. وليس ذلك بسبب ضعف الوعي، بل نتيجة عوامل مركّبة: نفسية، وتاريخية، وإعلامية. فإرث الخذلان السياسي ترك أثرًا عميقًا في الوجدان السوداني؛ إذ تعرّض المواطنون لخيبات متكررة من النخب، ما ولّد حالة عامة من اللايقين تجاه كل سلطة، وكل مشروع وطني، وجعل مقولات مثل “لا أحد يستحق الثقة” تبدو منطقية.

تغوّل الخطاب العاطفي على النقاش العام جعل من السهل تمرير الرسائل الرمادية، لأن الثقافة السياسية تميل إلى التفاعل الانفعالي أكثر من التحليل الرصين. ومع ضعف الإعلام المحلي وغياب المرجعية المهنية، أصبحت التسريبات والميمز وآراء المؤثرين مصادر شبه رسمية. ويزيد الأمر تعقيدًا انفصال الخطاب الرسمي عن الناس، حين يتحدث بلغة نخبويّة جافة، بينما تتحدث البروباغندا بلسان الجمهور وسخريته. النتيجة: التعاطف الشعبي يتجه تلقائيًا نحو الأخيرة.

ولا يمكن إغفال أن الذاكرة الوطنية مثقلة بالانقسامات: من الحروب الجهوية إلى انفصال الجنوب، أصبحت مفردات التشظي مألوفة، لا تُستقبل كخطاب عدائي، بل كواقع معادٍ إنتاجه. وقد ساهم الانتقال السريع من الثورة إلى الفوضى في خلق مناخ خصب للبروباغندا الرمادية، إذ وُلدت الثورة بالأمل، ثم اصطدمت بانهيار سياسي وانقسام داخلي. فتفكك الحلم، وتحوّل الإحباط إلى بيئة مثالية لإعادة تأويل كل شيء بلغة الشك والسخرية، مما عمّق فقدان الثقة، وأضعف أي مشروع وطني جامع.

*بناء مناعة فكرية في زمن الاختراق الرمادي*

مواجهة هذا النوع من الحرب الناعمة لا تتم بالصراخ، ولا تُهزم بالبروباغندا المعاكسة، بل تُواجَه بمنظومة فكرية ومجتمعية تُعيد ترميم الإدراك الجمعي. في الحالة السودانية، تتطلب المواجهة جبهات مترابطة تبدأ باستعادة الثقة تدريجيًا، عبر إعادة تعريف المشروع الوطني بلغة تعترف بالإخفاقات، وتبني على الصدق لا على التجميل. بدون حد أدنى من الثقة بالمؤسسات والرموز، ستبقى مقولات “كلهم مخطئون” هي الحاكمة.

يجب كذلك بناء رواية وطنية مضادة، لا تنكر الواقع، بل تقدّم سردية متماسكة تُقنع بالأرقام والسياق، ليُسمع صوت السودان كفاعل، لا كضحية. أما تفكيك خطاب التضليل، فلا يكون بمهاجمة المؤثرين، بل بتحليل المصطلحات، وكشف الانحياز، والسؤال: من الغائب دائمًا في الرواية الرمادية؟

المعركة أيضًا ثقافية وإعلامية؛ وتتطلب تحصين الجيل الرقمي ضد السخرية الموجّهة، بإنتاج محتوى ذكي يكشف كيف يُستخدم الضحك للانسحاب، والسخرية للتمويه، والميمز أداة للقتل الرمزي والمعنوي. ويجب أن يُسنَد الخطاب بأصوات فكرية وروحية صادقة، تمتلك المصداقية وتخاطب الناس بلغتهم دون ابتذال أو شعارات جوفاء.

وفي المقابل، لا يمكن بناء وعي وطني جامع في ظل خطاب يساوي بين الانتماء الوطني والانتماء الجهوي أو القبلي. لا بد من ترسيخ أن الدولة كيان سيادي جامع، يتجاوز الولاءات المناطقية، ويحتضن الجميع على أساس المواطنة والقانون. وهنا، ينبغي أن تستعيد الدولة دورها عبر وزارة الإعلام، لا كمؤسسة طوارئ، بل كجهة مبادرة تقود الوعي الوطني بخطاب شعبي–مهني، ودعم إنتاج سردي وطني في الوثائقيات، الدراما، والبودكاستات الرقمية.
تفنيد المنصات المضللة يجب أن يتم بشفافية ومهنية لا بقمع، وبخلق بيئة يثق فيها المواطن أن المعلومة تأتي من المصدر الوطني أولًا، لا بعد فوات الأوان.

*خاتمة: من الإنسان الرمادي إلى الضجيج الرقمي*

الخطر الحقيقي في البروباغندا الرمادية لا يكمن في الرسائل الفردية، بل في المناخ الإدراكي الذي تخلقه. فعندما تتراكم هذه الرسائل في كل زاوية من الفضاء العام، يُعاد تشكيل الإدراك الجمعي، ويُنتج مجتمع لا يثق في دولته، يشكك في رموزه، ويُصاب بما يُعرف بـ”الشلل المعرفي” (Epistemic Helplessness) — وهي حالة من العجز عن التمييز، تجعل الفرد متلقيًا سلبيًا، غير قادر على بناء موقف أو اتخاذ قرار، حتى لو وُضعت الحقيقة أمامه.

ما يُروّج في هذا السياق ليس عداءً صريحًا، بل عبارات رمادية تُقدَّم بلباس العقلانية: “كلهم مخطئون”، “لا أحد يستحق الحكم”، “الجيش والدعم سواء”. لا يُطلب من المواطن أن يدعم العدو، بل يُدفع للتخلي عن أي يقين. وحين يقول: “لا أستطيع أن أصدق أحدًا”، تكون المعركة قد حُسمت — دون أن تُطلق رصاصة واحدة.

البروباغندا الرمادية لا تعمل في فراغ، بل تُفعَّل داخل بيئة مشوَّشة صُمّمت لإجهاض التفكير النقدي. إنها لا تكتفي بتفكيك القناعات، بل تحاصرها بالإلهاء المنهجي، والتسريبات المدروسة، والشائعات المصمّمة لملء فراغ الحقيقة. وهكذا، لا يُعاد تشكيل الرأي فحسب، بل يُعاد ترتيب الانتباه ذاته.

*في الجزء الرابع*، سنفكك هذا “الضجيج المصنوع”: كيف تُدار سياسات الإلهاء كتكتيك استراتيجي؟ كيف تُزرع الشائعات كأدوات رمزية لإرباك المواقف؟ ولماذا تتحول المنصات الترفيهية إلى أدوات تضليل ناعم، يُستخدم فيها “الوجه المحبوب” لتمرير خطاب مسموم بلغة مبتسمة، بينما تُغمر الحقيقة وسط زحام مُعد بعناية؟
*ففي هذا الزحام الرمادي، لا تختفي الحقيقة فقط… بل يضيع الإنسان.*

bitalmakki@gmail.com