سلامٌ مصر وقد حان الرحيل
الطاهر يونس
في فجر كل هجرة يبقى الوطن في القلب شجرةً تلامس جذورها الأرض مهما ابتعد عنها ابناؤها وعلى أفق الأمل تتبدد سحايب الظلم وتدب الحياة في أوصال تلك الأوطان التي شهدت لحظات الوجع ثم ساعة الخلاص.
وها هي مصر أرض الأمان تُلملم أطرافها لتودع أبناءها من السودانيين الذين اضطروا لترك ديارهم هاربين من جحيم الحرب فوجدوا في أرض الكنانة ملاذًا يطوي قصصًا من الألم والمعاناة وأملًا لا ينتهي في غدٍ أفضل.
مصر كما عودتنا لم تكن يومًا مجرد قطعة من الأرض بل هي الحاضن الأول لكل من ضاقت به الدنيا من أهلنا ولم يجد متكأ أو ملاذا آمنا إذ لم تكن الحدود يومًا فاصلًا بين الأشقاء وإنما كانت رحمًا يتسع للجميع ومرفأ للأمل الذي لا يغادر فما أن غشي السودان الغبار وتلاطمت أمواج الحرب في أرضه حتى جاءت مصر لتفتح أبوابها فاستقبلت في صدرها ملايين الأنفس التي سعت إلى الأمان كما فعلت عبر التاريخ. هذه الأرض العريقة لم تَفْتَرِق يومًا عن مبادئها: الأخوة، الكرامة، والإنسانية.
لكن اليوم وبينما تتحرر السماء في بلادنا من سحب الحرب وترفرف فوق ربوعنا رايات الانتصار الممهورة بالدماء الطاهرة يقرر الكثير من السودانيين العودة إلى ديارهم، بعد أن جفَّت الأرض تحت أقدامهم في مغارات اللجوء وبعد أن جرت أنهار الأمل في عروقهم من جديد. فالعودة حلم يتجاوز مجرد الرجوع إلى الجغرافيا لكونها عودة الروح إلى الجسد وانتظام القلب في خفقانه ،عودة الأحلام التي تلمع في العيون وتفكر في مستقبل قد يخبئ بين طياته بذور السلام المستدام.
إنها لحظة فارقة لحظة يشعر فيها السودانيون بأن العودة إلى الوطن، إلى الأرض التي شهدت أول خطواتهم هي في النهاية الطريق الصحيح دون أن تغيب عن الأذهان تلك الأيام التي قضاها الكثير منهم في ضيافة مصر، كما لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة تلك اللحظات التي كانت فيها مصر درعًا لكل من وقع في شباك الهروب من قسوة الأيام. في هذا الوطن الكبير لا فرق بين مصر والسودان إلا في بعض فواصل الجغرافيا وتعقيدات السياسة ودروبها الشائكة أما في القلب فالوطن واحد لا يتجزأ.
إنها لحظة تتداخل فيها المشاعر من فرحٍ بالعودة إلى الأرض التي اشتاقت لها الأرواح، ومن حزن على فراق “وطن” آخر عاش فيه الإنسان تحت مظلة الأمان يجعل القلب معلقًا بين الحنين إلى العودة وبين ذكرى الأيام التي عاشها في كنف مصر حيث الحماية كانت أشبه بالورد الذي يفتح أزهاره على مدار السنة فقد كانت مصر مرساة في زمن العواصف وصدرا حنونا في زمن الاحزان وضماداً في زمن الجروح النازفة.
وكيفما كان الزمان ستظل مصر الحكاية التي لا تنتهي كما قال الشاعر الكبير أحمد شوقي في إحدى قصائده:
يا مصرُ إنني ذُقتُ الهوى فيكِ
واستظللتُ بجناحيكِ فَمتى أعود؟
لا شيء يعكس روح التضامن الإنساني كما فعلت مصر مع إخوانها السودانيين في تلك المحنة. لقد كانت حقيقةً ملاذًا آمنًا كما قال شاعرنا إيليا أبو ماضي:
مصر في قلبنا نورٌ لا يغيبُ
وأنتِ يا وطن فينا لن تغادري
ومع العودة إلى الديار تبقى صورة مصر في القلوب وحكايتها تسرد على ألسنة الجميع، علامة على الشهامة والعطاء. فسلامٌ على مصر التي كانت وطنًا لاهلنا في الغربة وستظل نبضًا في القلب وطريقًا يضيء دروب العائدين.